للمدن العظيمة كما للأفراد روح وخواص معنوية تحدث أثرها في النفس؛ وللمدن العظيمة أيضاً ذكريات وتقاليد تنم عن هذه الروح والخواص، ومن خواص مدينة فينا أنها تتمتع بجاذبية مدهشة تنبعث من جميع مظاهرها وحياتها العامة؛ وللعاصمة النمساوية ماض باهر حافل بالذكريات العظيمة، وإذا كانت صروف الحرب والسياسة قد أسبلت على هذا الماضي الباهر سحابة من النسيان فإن المدينة التالدة ما زالت تحتفظ بهذا الروح المرح الجذاب الذي عرفته أيام المجد، في ظل إمبراطورية عظيمة، وفي ظل دولة الفن والموسيقى الزاهرة أيام أن كان يطربها ويشجيها ويبكيها آنا بعد آخر آلهة الفن الرائع: موتسارت وشوبرت ويوهان شتراوس.
وما زالت فينا برغم جميع الأحداث والمحن تفيض بالذكريات الحافلة، وما زال الروح النمساوي يرقرق نحو الماضي ويستوحيه ويستمد من تراثه كثيراً من آيات الظرف والأناقة والسحر؛ والخلق النمساوي يجنح بطبعه إلى الأدب الجم والرقة المتناهية؛ وإنك لن تشعر في أية عاصمة أوربية أخرى بما تشعر به في العاصمة النمساوية من آيات الترحيب وحسن الوفادة ورقة الشمائل والخلال.
ومن ربوع فينا وذكرياتها العزيزة حي (براتر) ومن ذا الذي لم يسمع باسم براتر من زوار العاصمة النمساوية، بل من ذا الذي لم يجذبه ذلك الحي المرح الضاحك الذي كان أيام الإمبراطور مرتع الأمراء والنبلاء، والذي ما زال مرتع الشباب والحداثة من كل الطبقات؟ إن حي براتر يمثل ناحية خاصة من حياة العاصمة النمساوية؛ ومع أنه حدث في روحه ومظاهره، فإنه ما زال من أشد الربوع والمعاهد إعراباً عن روح فينا الحقيقية. وإن أولئك الذين يعرفون كم تعبر أحياء مونمارتر وميجال ومونبارناس عن الحياة الباريسية الشعبية يستطيعون أن يفهموا كم يعبر حي براتر عن ذلك الجانب من حياة العاصمة النمساوية.
وليس حي براتر في الواقع أكثر من مجموعة كبيرة من الألعاب والملاهي الغريبة؛ ولقد عرفت القاهرة في بعض المناسبات شيئاً من هذه الملاهي باسم (لونابرك)، وكان آخرها ما