للمستشرق المجري الدكتور عبد الكريم جرمانوس أستاذ التاريخ
بجامعة بودابست
كنت لا أزال منزويا في مقدم الباخرة، حينما أسفرت أضواء الفجر الشاحبة عن هذه البقاع الإسلامية المقدسة، فإذا (بجدة) تسمو في السماء اللازوردية، بينما تترامى أمواج البحر على أقدامها، تشقه عشرات البواخر والزوارق في حركة متواصلة، يتصاعد منها صخب داوٍ اختلطت فيه كافة لغات الشرق، فأعادت إلى ذهني المكدود بابل بأسواقها وشعوبها، إلا إن المدينة الخالدة كانت تبدو فوق هذه الحياة اللاغطة، كأنما تسمو خلوداً فوق مظاهر مدنيتنا الحديثة الزائلة وقد برزت منها مآذن في دقة الحراب وقباب كانت شاحبة البياض قبل أن يدنسها دخان بواخر الغرب فكانت ترسو في ظلها المراكب الشراعية حاملة طوائف المسلمين من الهند وجاوة وسومطرا والصين وشواطئ أفريقيا
وأقترب الصباح فاستعد الركاب للنزول وبدءوا يستقلون الزوارق الخفيفة، وكان النساء يرتدين تلك الملابس البيضاء، سافرات الوجوه، لا يجرؤ أحد على أن يتطلع إليهن بنظرة، ومن ذا الذي في قلبه مرض فينظر إليهن في هذه الساعة الرهيبة نظرة اشتهاء؟ وفي الواقع إن الجاذبية الجنسية كانت منعدمة تماماً؟ وقد أبعد الحجاج عن خواطرهم شتى صور الحياة حتى لا يحول شيء بينهم وبين الوصول بقلوبهم إلى نور الله الواحد القهار
وكان على الشاطئ حشد من الحمالين والمطوفين ومراقبي جوازات السفر وفريق من موظفي الحكومة لجباية الضرائب وهم جميعاً يتكلمون لغات شتى. فما إن يهبط عليهم أحد الحجاج حتى يلتقطه المطوف ويقوده إلى الموظفين المختصين وبعد إتمام الإجراءات الرسمية يصحبه إلى المسكن المعد لإقامته
وجاء دوري، فلما سئلت أمام مراقب الجوازات تطلع إلى وسألني عن جنسيتي فأجبته: من بلاد المجر. . . عند ذلك أظهر ارتباكاً، إذ لم يسبق له أن سمع قبل اليوم ببلادنا؛ وأخيراً أسر إليّ بأن مسألتي من المسائل التي يبت الأمير فيها بنفسه. وأشار إلى أحد رجال الشرطة وأمره بأن يقودني إلى دار الأمير لأنه هو الذي بيده سلطة التصريح لي بالسفر