إلى مكة. وكانت دار الأمير تبعد عن الميناء مسافة لا تقل عن نصف ساعة سيراً على الأقدام. ولبيت الأمر فسرت مع ذلك الشرطي نتجاذب أطراف الحديث في طرق معبدة ملساء، غير أنه كان من سوء حظي أن أحد مسامير الخف الذي كنت أنتعله، برز من موضعه ودخل في قدمي فأحدث لي ألماً شديداً ظل أثره أياماً طوالاً
وما إن انتهت مقابلتي للأمير، وقد استغرقت نحو ساعة، حتى عدت إلى الباخرة، وكنت قد نسيت أني تركت أمتعتي في الزورق البخاري، ولقد كان أسفي لضياعها عظيماً، وكم عنفت نفسي لوقوعي في مثل هذا الإهمال الذي كانت نتيجته ضياع الأمتعة بما فيها الكتب! وكدت أقطع الأمل من العثور عليها، ولكن الله سلم، فإن النظام المحكم الذي يقوم به رجال الشرطة في الحكومة السعودية أتاح لي أن أعثر عليها بسهولة في إحدى قاعات الجمرك وعليها بطاقة باسمي. وبعد ساعة قادني المطوف إلى دار الأستاذ محمد ناصيف الذي كنت أحمل إليه كتاب توصية، وما كاد يتلوه حتى رحب بي على طريقة العرب في شوق وترحاب، وغمرني بكل صنوف الكرم التي لن أنساها؛ وتلك لعمري إحدى مفاخر الإسلام التي تتجلى عظمتها في كل مناحي الحياة
والأستاذ محمد ناصيف فوق أنه من سراة الحجاز رجل مثقف ثقافة عربية ناضجة، وتضم داره مكتبة زاخرة لا يكاد الإنسانيرى مثيلها في بعض الأقطار الأوروبية أو الأسيوية، وله رفاق يلتفون حوله كأسراب الطيور، ليلتقطوا من حديثه الشهي الحكم البالغة والآيات البينات
تبعد جدة عن مكة بمسافة ٧٩ كيلومترا، وتشبه مبانيها الاستحكامات العسكرية، ودورها مرتفعة ارتفاعاً شاهقاً، وهي مكونة من جملة أدوار، بينما تتوج جدة قباب المساجد المقدسة، واسمة إياها بذلك الطابع الفريد الذي يميزها دون سائر مدن العالم
ومن الغريب أن قناصل الدول والوزراء المفوضين يقيمون في جدة دون أن يتخطوها إلى داخل الأراضي المقدسة؛ ويستحضر رجال الهيئة السياسية طعامهم من الخارج، حتى الماء يجلبونه من مصر، لأن مياه جدة أجاجية غير صالحة للشرب
وتستقبل أسواق جدة عادة زبائن من كافة بقاع العالم، ولا يفتأ تجارها يستحضرون أنواعا من السلع لا تناسب بينها مطلقاً، بل هي خليط من أذواق مختلفة ومشارب متباينة وبعد أن