قضيت في ضيافة الأستاذ محمد ناصيف بضعة أيام صدرت الأوامر بالسماح لنا بالسفر إلى مكة. والواقع أن الفترة التي قضيتها في دار ذلك الشيخ الجليل دفعتني إلى الإيمان الشديد بأن الفوارق الجنسية لا أثر لها مطلقا في الإسلام، بعكس ما نشاهده في الحضارة الأوربية من الإشادة بالقوميات والعصبيات وغيرها من المشكلات الاجتماعية التي تثيرها روح التعصب الأعمى. وصادف أن رافقني في السيارة إلى مكة خمسة عشر زنجياً من أهالي الصومال، وكنا في خلال الطريق لا ننقطع أن نهتف: لبيك اللهم لبيك! وهنا يجدر بي أن أنوه للمرة الثانية بعظمة الإسلام التي تتجلى في عدم التفرقة بين الكبير والصغير والرئيس والمرءوس، فالكل سواسية؛ وقد شعرت بتلك الحقيقة وأنا بصحبة هؤلاء العبيد الفقراء، وقارنت بين ذلك وبين الفروق الشاسعة في أوربا الموجهة نحو احتقار العناصر الضعيفة والتفرقة ين الألوان
كانت السيارة تنطلق بنا في طريق ممهد لا يمله النظر في كل جزء من أجزائه، الطريق سلكه قبلنا ملوك وعظماء وأنبياء منذ مئات السنين، وكانت السيارة كلما مرت بقافلة من القوافل نظر الأعراب إلى تلك الآلة الجهنمية التي تنبعث منها أصوات منفرة وروائح كريهة، في شيء من الحنق والغيظ. فقد أصبح النقل اليوم في أكثر طرق الحجاز بالسيارات تمشياً مع مقتضيات الحضارة الحديثة، مع إن البدو كانوا يربحون الشيء الكثير من نقل الحجاج بالإبل، وكانت النقود التي تدفع إليهم تبقى في حوزتهم، أما السيارة فإن ثمنها وأثمان وقودها وقطع تغييرها تتسرب الآن إلى خارج البلاد، فلا عجب إذا نظر إليها البدو في شيء من الحنق ونقموا على من كانوا سبباً في إدخال تلك (الآلة الجهنمية) إلى الصحراء، وهم يقولون إن الإنسان يجب أن يركب في سبيل الحج أشد الأمور، فلا يخال نفسه ذاهباً إلى سياحة هادئة، ويتذرع بوسائل الراحة والرفاهية مما يلقاه في السيارة؛ وبمقارنة الإبل بالسيارة، نجد إن للأولى قوة احتمال على الجوع والعطش، بعكس السيارة التي تحتاج إلى تجديد الماء كل أربعة ساعات، والوقود كلما نفد، فضلاً عن جهل السائق بميكانيكيتها مما يسبب عطلها في الطريق وتترك الحجاج في العراء إلى أن تقدم سيارة أخرى
أجل! لقد أزعجت السيارة ذلك الهدوء الشامل في الصحراء وأقضت مضاجع الأعراب