وحولت طمأنينتهم إلى نوع من الثورة على الحضارة الأوربية وما تقدمه إليهم من كهرباء وطيارات ولاسلكي
دخلت سيارتنا مكة في منتصف الليل تقريباً فراعني أن أرى الناس في الشوارع، يغطون في نومهم ويحلمون بالجنة التي هم بها موعودون، لا سيما وأنهم أصبحوا على قاب قوسين منها. أهاج هذا المنظر خاطري فأنبثق في نفسي شعور خفي وأنا أستقبل تلك الأرض المقدسة التي وطئتها قدما الرسول وكانت خير منارة للحق، فهددت الناس إلى السبيل القويم
وقصدت لساعتي إلى دار مطوفي، وهي دار رحبة عالية البنيان، بها غرف في الدور الأسفل، أعدت لاستقبال الحجاج الجدد عند وصولهم إلى مكة. وبعد أن رحب بي المطوف سألني عما إذا كنت في حاجة إلى طعام أو شراب فأجبته بالنفي، إذ كنت لا أزال غارقا في نهار من الأحاسيس الخفية، معللا النفس بقرب بزوغ النهار للطواف بالكعبة المقدسة
وما أن غشيت غرفتي واستلقيت على البساط حتى أغمضت عيني واستولى عليّ النعاس، فتخيلت الرسول الكريم وقد بدا أمامي في شكل نوراني، يكاد يخطف الأبصار، وكأنما هو ينشر كلمة الله فيضئ بها العالم يدعو الخلق إلى كلمة الحق، ورأيت الخلفاء الأربعة يتوسطون حلقات من الناس طبقا لقواعد الدين الحنيف، ويسودون العالم بالحكمة والمحبة لا بالعنف والشدة، ثم تخيلت هارون الرشيد وهو يجول أناء الليل في شوارع بغداد ويجوس في خلال أزقتها ودروبها، فيكافئ الأتقياء وينزل عقوبته بالمجرمين، وانبسطت أمامي بلاد الأندلس الزاهرة وقد سادها حكم العرب، فنشروا بين ربوعها العلم والحكمة والفلسفة والفلك والفقه حتى أصبحت هذه العلوم كشجرة مباركة فرعها في السماء، وأظلت بأوراقها اليافعة الخضراء تجاه مكة المكرمة والكعبة الشريفة؛ ولا يظن أحد أن ما شهدته كان من قبيل الرؤيا أو أضغاث أحلام، بل هي أشباح خالدة تطوف بذهن كل مسلم صادق العقيدة متوجه إلى الله بقلب نقي طاهر
وعند انبثاق الفجر نهضنا من النوم على أصوات ملائكية، كأنها هابطة من السماء، تلك هي أصوات المؤذنين يدعون المؤمنين إلى صلاة الفجر التي هي خير من النوم، فقمت مهرولاً، وبعد أن توضأت يممت شطر المسجد الحرام ومعي مطوفي، وكنت أؤدي الصلاة المفروضة طبقاً لإرشاده، ثم بدأت أطوف بالكعبة فسرني أن رأيت ألوفاً من الحجاج، من