المنصورة بلد الطبيعة الساحرة والطبع الشاعر هي الآن مصيف ومهجر
هي مصيف، لأن موقعها على ملتقى النهر الصغير والنهر الكبير جعلها كرأس البر على ملتقى النيل والبحر؛ والفرق بينهما أن (رأس البر) رمله من رمال الصحراء، والمنصورة روضة من رياض الجنة. وهي مهجر، لأن بعدها عن الأهداف الحربية والثغور البحرية صرف عنها لحظات المغيرين والغِيَر
ومن جملة المصطافين بها والمهاجرين إليها تتألف في القهوات والندوات جماعات في الأدب والسياسة والتجارة واللهو والفضول ترتسم من مجموعها صورة مقاربة لمجتمعنا العام تصلح للتأمل والدرس. ومن جعل الله ديدنه وصف ما يبصر، وتسجيل ما يسمع، لا يملك أن يشاهد هذا العالم الصغير دون أن يعرض بعض أحاديثه للبحث، وبعض حوادثه للنظر
تتفيأ القهوة التي نجلس فيها الدوح الباسق والشجر الوريف بين شارع الكرنيش وشاطئ النيل. فهي تنظر عن اليمين فترى في الطريق أخلاطاً من الأجناس أكثرها الإغريق، وأنماطاً من اللباس أغربها القلانس، وصوراً من الحسن أبدعها الأوانس، وهُوَلاً من القبح أشنعها المتسولون والباعة. وتنظر عن الشمال فترى في النهر زوارق العبور تنساب حابسة في شُرُعها طلق الهواء، أو ضاربة بمجاديفها وجه الماء، وشباك الصيد يطرحها الصيادون في المكان الضحل فلا تصيب إلا صغار الحصى أو شَبار السمك، وخواطف الطير تحلق فوق الصائد فتخطف ما ثار أو تأخذ ما ترك
يندو إلى هذه القهوة طوائف من الناس ألفت بينهم وحدة الحرفة أو مصافقة المودة أو مبادلة المنفعة: فهنا المعلمون قد تكوفوا على بعض المناضد القاصية، يجادلون بالصوت الجهير في الحرب والأخبار، أو يخوضون في حديث المفتشين والنظار، ومذباتهم التقليدية تتحرك آلياً في أيديهم فتذود الغبار عن الثياب والذباب عن الأوجه. وهناك التجار يتعاقب على مناضدهم الوسطى شُكول من السماسرة والمنتجين فيقيمون في حدودهم الضيقة سوقاً