أسطورة (نهر الجنون) معروفة، ولكن لا ضرر من التذكير بها في هذا المقام؛ فهي تتلخص في أن ملكاً رأى في نومه أن النهر الجاري بجواره قصره يصاب كل من شرب منه بالجنون. وأصبح فوجد أفراد الشعب كله - والملكة معهم - قد شربوا من النهر وجنوا، فحزن وقلق على شعبه وعلى رفيقة حياته، ولم يكن هناك أحد لم يشرب إلا الملك والوزير.
وبينما كان الملك ووزيره في شغل شاغل بالطب لهذه الكارثة كانت الملكة حزينة قلقة على الملك الذي جن - في رأيها ورأى الشعب - لأنه لم يشرب هو ولا وزيره. . .
وأخيراً، شرب الملك وشرب الوزير!!!
هذه الأسطورة تتكرر كل يوم في مصر - في عالم الفنون - بين العقلاء المجانين، وهو قلة قليلة، والمجانين العقلاء وهم كثرة كثيرة!!
ففي مصر مدرسة فنية عرفت باسم (المدرسة الحديثة)، وهي تجاهد منذ ثلاثين سنة لرفع الذوق الفني، بل لخلق الذوق الفني. ولكن الذين اتبعوها لا يزالون فئة قليلة، والذين فهموها فئة أقل، والذين تجاوبوا معها بعد فهمها فئة أندر. وهؤلاء هم الذين لم يشربوا من النهر، ولا تزال آراؤهم في الحياة والفن تثير العجب العاجب بين الشاربين!
وهذه المدرسة يبدو أن كل همها موجه لتصحيح مقاييس الأدب، ولكنها تجاهد في تصحيح مقاييس الإحساس بالحياة جملتها وتفصيلها، وتقويم الأذواق في أصولها وفروعها، فكل ما هو مادة حياة ومادة شعور ينال عناية هذه المدرسة. ومن ثم كان للموسيقى وللغناء نصيب وافر من جهادها.
ولقد أغضب زعماء هذه المدرسة وأملأ قلوبهم ظلاماً وبأساً إذا قلت لهم: إنهم فشلوا أشنع الفشل في رسالتهم، وأن أتباعهم - على قلتهم - ليسوا جميعاً بفاهمين حقيقة دعوتهم لأن طباعهم لا تتسع لها، وإحساسهم لا يستوعبها.
وإني لأخشى أن أقذف بها كلمة مزعجة مؤذية فأقول لهم: إن الظواهر حتى الآن تكاد تجزم