بأن طبيعة هذا الشعب ليست على استعداد للتجاوب معهم، وأن الشذوذ وحده هو الذي أطلعهم بين ظهرانيه، وأن المشكلة ليست مشكلة الفهم والتفهيم، ولكنها مشكلة الطبيعة التي لا تتسع لمثل ما في نفوسهم من أحاسيس. وعليهم إذن أن يشربوا من النهر، أو أن ينزووا عن المجانين العقلاء!
وإنها لصيحة مزعجة، ودعوى يتمنى مدعيها من صميم نفسه ألا يكون محقاً فيها، ولكن الدلائل جميعها - مع الأسف - تدل على صدقها الأليم.
والخطب في هذه المسألة متفاوت الدرجات، فقد يكون في الأدب أخف - إلى حد ما - لظهور طبقة قليلة من الشبان تبشر بالخير الضئيل. ولكنه فادح فادح في الموسيقى والغناء. وهذه الموسيقى التي لا نسمع غيرها، وذلك الغناء الذي ليس لدينا سواه.
فقد مضت القرون تلو القرون، وليس لنا موسيقي واحد، ولا مغن واحد. وكان (سيد درويش) فلتة شاذة، وهو مع هذا لم يرتفع إلى المستوى العالمي، ولكنه كان (إنساناً) في فنه، يحمل طابع الآدميين، وكان هذه كسباً، لأن (الآدمية) وحدها، لا الآدمية الممتازة هي التي نفتقدها في موسيقانا وغنائنا، فلا نعثر على ظل لها في الجميع، وما نزال نسمع ألحاناً وأنغاماً، هي رجع التأوهات الحيوانية المريضة وصدى الميوعة المسترخية المئوفة، دون أن يخطئ ملحن أو مغن مرة واحدة فيسمعنا صوت الإنسان السليم!
والقارئ يرى من هذه الكلمات، أن قائلها (لم يشرب من النهر) ولا شك. وإلا فهل يصدق أحد والأغاني ترن في الآذان ليل نهار، وتحملها أجنحة الأثير بالعشي والأبكار، أن ليس في مصر مغن واحد ولا مغنية منذ أجيال، وليس فيها ملحن واحد منذ قرون، وليس فيها موسيقي واحد في تاريخها الطويل؟.
أهذا كلام؟! أليس هو الجنون بعينه، أو العقل الذي هو عين الجنون؟
في مصر مطربون ومطربات، وفي مصر مُلحنون وموسيقيون، والشعب كله يردد أغانيهم وألحانهم، ويتهافت على حفلاتهم ورواياتهم، ويدمي أكفه من التصفيق إعجاباً بهم، فها يصدق أحد أن مصر - فيما عدا أغاني سيد درويش لم تطعم الموسيقى، ولم تتذوق الغناء، ولم يتردد في جوها صدى واحد فيه مسحة الآدمية؟
هذه قولة غليظة - لم تشرب من النهر - ولكنها كانت خليقة أن تنبض بها كل فطرة، وأن