لقد كان عهدي بك - يا صاحبي - فتى مشرق الوجه وضاح الجبين ريق الشباب، تتألق - دائماً - في الغالي الثمين من اللباس فتبدو في رأي العين حسن الهيئة جميل الشارة، تتوثب نفسك سعادة ومرحاً ويفيض قلبك بهجة وحبوراً، يشغلك سهل الحياة عن حزَنها وتصرفك سعة العيش عن شظفه، تتفتح لك الدنيا عن مثل بسمة الزهرة النضيرة سقاها ندى الفجر الرطيب ورفت عليها نسمات الصبح الرقيقة، فتتدفق في قلبك لذة وهدوءاً، فكنت - إذ ذاك - تبدو كفراشة سعيدة ما بها إلا أن تثب بين الورود والرياحين ترشف الرحيق العذب في شوق وشغف ثم تنطلق إلى غايتها لا تأسى على شيء. فمالي أراك الآن وقد حال لونك وذوى عودك، إنني أحس كأن حادثة عصفت بك فلفَّت بهجتك في ثناياها وطوت البشر عن عينيك، فبدت على جبينك سمات الحزن وارتسمت على وجهك علامات الكآبة. يا عجبا! لقد تغضَّن جبينك بعد إشراق، وتكسرت شوكتك بعد صلابة واستحالت أناقتك إلى أسمال خلقة! فماذا كان من الأيام وماذا كان منك، يا صاحبي؟
وأطرق الرجل حيناً في خجل ثم قال وفي صوته ضعف وفي نبراته اضطراب (إن لي حديثاً طويلاً لا أستطيع أن أفضي به إلا أن يطمئن بطني، فأنا منذ ليلتين أبيت على الطوى لا أجد ما أسد به رمقي، وحاولتُ جهدي أن أحتال لأمري فعجزتُ، وتنكَّرت لي الأيام وعصرتني الحياة بين فكين من حديد، فانسدت مسالكها وأوصدت مساربها، وتراءت لي قلوب الناس جامدة لا تنبض بشفقة ولا تهتز برحمة. . .)
وحزَّ حديثه في نفسي فانطلقت أهيئ له طعاماً وشراباً، فما راعني إلا أن يلوك اللقمة ولا يكاد يزدرها ويحركها بين أسنانه ولا يكاد يستسيغها. فقلت له في دهشة (ما بالك لا تقبل على الطعام؟) قال: (يا سيدي، إن الطير ليزق فراخه وهو خمصان فيحس الشبع والراحة حين تهدأ نفوسها، وإن الوحش الكاسر ليطعم صغاره دون نفسه وبه قرم إلى اللحم فيجد السعادة والهدوء. وإن لي صبية يتلهَّبون جوعاً. . . قلتُ: (إن لعنة الله لتنحط على المكتظ فتصيبه بالتخمة ليعلم أن بطنه لا يسع ما يشبع بطنين) ثم أخذتً أعدُّ لصغاره طعاماً يكفيهم