للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أياماً، ورأى هو الطعام فهب - في بشر - يريد أن يحمله إليهم، فقلت له: (مهلاً! إن الخادم سيحمله إليهم وستبقى أنت هنا لتقص قصتك. . .)

وجلس صاحبي إلى جانبي مطرقاً في سهوم، وإن خواطره لتضطرب في بيداء السنين وإن الحوادث لتشتجر في قلبه، وإن نفسه ليتنازعه عن أن يفضي إلى بذات نفسه. فقلت: (يا أخي، لا بد من شكوى. . .!) قال: (آه، إن في الإنسان دوافع ترابية إن سيطرت عليه سفلت به عن معاني الإنسانية) ثم قال: (نشأت أنا وأخي الأكبر وحيدين تجمعنا صلاة الأخوة والصداقة وتضمنا روابط الطفولة واليتم، لم نشعر بعطف الأب ولم نتنسم حنان الأم، ولنا دار وتجارة، فتكفلنا عمنا، وماله ولد ولا فيه طمع فشملنا بعطفه وخصنا بعنايته وإنه لرجل دين وقناعة، فما امتدت يده إلى درهم من مالنا ولا عبث بالضئيل من تجارتنا ولا خلبه بريق الذهب ولا استهواه شره المال، فعاش وعشنا في كنفه سنوات، ثم أصابه الكبر وعصفت به الشيخوخة على حين قد نما أخي الأكبر واشتد عوده، فقام هو على تجارتنا يصرفها ويرعاها ومن ورائه رأي عمي وتجاره وإخلاصه.

وانطوت السنون تصقل أخي وتحبوه بالمران والدربة، وأنا منصرف عن شواغل الحياة وعن رواعي العمل إلى عبث الشباب وطيش الصبا، لا يعنيني إلا أن أجد المتعة واللذة. . . وغَرَّني ما ألاقي من حب أخي ووفائه فسكنت إلى صفاء ودَّه وخالص حبه. . .

ثم تزوج هو وتزوجت أنا، ودخلت المرأة بيننا تريد أن تفصم عروة عقدتها يد الزمن، وأن تقطع آصرة ربطتها جفوة الحياة منذ أن شب كلانا عن الطوق. والمرأة شيطان جميل ينسرب حديثه الطلي إلى القلب رقيقاً في مثل نسمات الربيع اللطيفة، وهي ثعبان ينفث سموماً تتدفق في النفس في مثل حلاوة الرحيق. . . ووجدت كلمات المرأة من أخي أذناً صاغية فما تلبث أن شطر الدار شطرين، وأقام بيني وبينه جدر، لا يستطيع واحد أن يظهره. وأحسست أنا - لأول مرة في حياتي - مسَّ الأسى والحزن حين أحسست فقد أخي وهو إلى جواري.

وانجابت غشاوة من على عيني فتراءى لي ما يتوارى خلف أستار الزمان، وخشيت أن يخلو أخي إلى زوجه يلقي السمع إلى حديثها ويلقى السَّلم إلى رأيها فإذا تجارتنا شطرين مثلما أصبحت دارنا شطرين، وغبرتُ أياماً تؤرقني الفكرة وتزعجني الخاطرة، لا أستطيع

<<  <  ج:
ص:  >  >>