كان ذلك في مطالع شبابي غب تخرجي في مدرسة التجارة، حين آثر أبي أن ينشئ لي متجراً، وكان هو وجدي وقتئذ يرعيان تجارتي الناشئة، ويقضيان معي الساعات، يوجهان العمال، ويشاركان في استقبال الحرفاء، وينيران لي في كل مناسبة طريقي الجديدة. وكنت يومئذ شديد الرغبة في النجاح، فكنت أستدفع الضجر، وأطامن من اعتزازي بآرائي، وأتقبل توجيهات أبي وجدي راجياً أن أتنور على هديهما مقصدي
وكان أبي لا ينفك يوصيني بألا أبيع بالنسيئة أبدا، ويقول لي: يا بني! خير لك أن تبقي بضاعتك أمام عينك من أن تعطيها الناس ثم تظل في انتظار ثمنها يدفع أو لا يدفع. وكنت أعرف ما جرته النسيئة على أبي من متاعب، فبدا لي أن أتخذ وصاته مبدأ أساسها لمتجري لا أنحرف عنه
ووقفت عصر يوم بجانب مكتبي النصف دائري، وأنا جذلان بنظام محلي ووفرة محتوياته وببشائر النجاح بادية في إقبال الحرفاء ورضاهم. . . وقفت أقبض أثمان المبيعات، وأوجه للعمال أمرا بعد أمر، وأنطلق بين لحظة وأخرى مع مرسلات الأماني. وفيما أنا كذلك، إذ أقبل عليَّ شيخ حطمه الشلل يتحامل على عصا غليظة، وعليه ملابس بلدية موشكة على البلى وإن تكن فاخرة الصنف، وفي صحبته طفل في نحو الخامسة يلبس جلباباً قصيراً خفيفاً، ويحمل وجهه سمات حزن لا يكون في أمثاله
وقال الشيخ في لهجة عزيزة ومنكسرة معاً:(أعطني يا بني عشر أقات دقيقاً)، فهتفت حالاً بالعامل القريب:(زِنْ لحضرته ما يطلب وخذ منه ثلاثين قرشاً)؛ وأجاب الرجل وهو يتكلف الابتسام:(بل يزن المطلوب ويكتب عليَّ ثمنه)، فما أسرع ما اندفعت قائلا في تصميم قاطع:(مستحيل هذا)؛ وابتسم الرجل ابتسامة واهنة، وقال وهو يتلفت كأنه يتحرى ألا يسمعه أحد:(بل ليس مستحيلا، ولا تمنع عمك أحمد الناجي ما يطلب، لا ضامتك الأيام)، ولكني نظرت إليه نظرة لا رفق فيها، وقلت كأني استعجله مغادرة المتجر:(مستحيل جداً يا عمي، وبالله دعنا في شغلنا)