ونظر الشيخ إليَّ ثم إلى طفله نظرات المغضب المغلوب المتحسر فكدت لفرط ما تأثرت بهذه النظرات أستجيب لطلبته لولا أن ذكرت أن الأمر أمر مبدأ، وإني إن بذرت اليوم للنسيئة حبة فسأبذر غيرها غداً، وإذن فسأجني الثمرة المرة التي جناها أبي، والتي حذرني منها تحذيرا. واستدار الرجل في صعوبة وهو يتكئ ببدنه كله على عصاه، وجر رجليه جرا إلى الطريق ومعه طفله الذي كان يحكي هزاله وحقارة ملبسه حكاية البؤس مؤثرة وجيعة
ونزل جدي في هذا الوقت من عربته يصلح وضع مُطرَفه، ويلقي السلام على جيران المحل، وما بصر الشيخ حتى وقف يصافحه بحرارة مبادلا إياه تحيات أيدتهما لي كشقيقين على صفاء ومحبة، وأسرعت فقدمت لجدي كرسياً، ولكنه قدمه إلى الشيخ في اهتمام وهو يقول:(أيها الأخ! إني سائل عنك، قلبي معك) ونادى صبياً يعمل في المتجر أن يحضر قهوة للشيخ. وإذ رأيت عواطف جدي نحو الشيخ تولاني خجل شديد لما فعلت معه، ولكن تولاني أيضاً خوف من أن أورط في هذه العشر الأقات
وتحدث جدي مع الشيخ لحظات في صوت خفيض، فما لبث جدي إن صاح بي في لهجة ناهرة:(أهكذا يا محمد تفعل مع الشيخ؟! زِنْ له عشرين أقة) وصدعت بالأمر كارهاً!
أمر جدي أحد العمال بنقل الدقيق إلى بيت الشيخ الذي علا البشر صفحته، والذي قال وهو قائم يخطو إلى الشارع:(أكتب عندك ستين قرشا على أحمد الناجي)؛ وانطلق متحاملا على نفسه وأنا أتبعه بنظراتي غضبان أسفاً لكسر مبدئي التجاري، وأهمس لعامل قريب معرضاً بجدي:(شيوخ طيبون، يصدقون كل شيء، ويدخل الاحتيال عليهم)
وقعد جدي يردد أدعية بالستر الجميل له ولذريته، ثم قال مسمعاً إياي والأسف ظاهر في وجهه:(إنها الدنيا! الشيخ أحمد الناجي تعوزه أقات من الدقيق! الشيخ الناجي الذي كان يتصدق القمح أرادب! قضاء الله! ضاعت أمواله الضخمة، وأصابه الكبر والشلل، وتخطف الموت امرأته وهو أحوج ما يكون إليها، وله كما رأيت طفل ضعيف تُعوزه التربية!)
وجعل جدي يحرك قبضة عصاه في شبه حركة عصبية، وهو يبدأ ويعيد في الحديث عن صديقه الشيخ مظهراً غضبه مني إذ لم أسارع إلى تنفيس ضائقته، ولم أقدم إليه من الاحترام ما هو كفاء منزلته وعراقته