للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وجاءني أبي مساء، فحدثته بالذي كان، وكأنما كنت أريد أن أقول له: أنظر ماذا فعل أبوك! فكان يضحك للهجتي، ولكن وجهه كان ينم عن تأثره لمأساة الشيخ الناجي، ومضى يحكيها لي مفصلة وهو يحوقل ويسترجع، على أنه ما لبث أن قالها بينة صريحة: (ومع ذلك فلا تعط أحداً بعدها شيئا بالنسيئة)

ومرت أيام، فجاء الشيخ الناجي بوجه فيه الأسى، وكعهدي به اتخذ من عصاه رجلا بعد رجل، وتكلف لي ابتسامة جاءت خجلى منكمشة وقال: لا تضق بي يا بني، إن لي إليك رجاء يسيراً. . . أتأذن بقرش حلاوة لهذا الصغير؟ (مشيرا إلى ولده)

وعض الحزن على قلبي للطفل الشاخص ببصره إلى الحلاوة، واستحيت لكرامة جدي، فأسرعت بنفسي وقدمت إلى الطفل قطعة من الحلاوة، ثم التفت إلى الشيخ أسأله مجاملا: ثم ماذا؟ فأجاب: (لا شيء، جعلك الله من السعداء)

وجلس على كرسي وإمارات التعب الساغب عليه، واحتضن ولده في حنان وأسف وهو يقول له بنبرة حزينة: يا بني المسكين! تأكل مما يقترض أبوك؟!

وسمعت عاملين يتهامسان بما ينقض عوز الشيخ، وبأنه يقول ما يقول ليسرق عطفي، ولينفي عني كل شك، فهمت نفسي بتصديقهما لولا أن ذكرت تفاصيل ما قصه علي أبي وجدي

ومضى الشيخ يجر جسمه وطفله. وانقضت أشهر وأنا لا أراه حتى كان يوم وردت فيه جنازة إلى المسجد القريب من المتجر ليصلى عليها. ووقف المشيعون ينتظرونها عن كثب من المحل؛ وقال قائل: يرحم الله الشيخ أحمد الناجي! وقال آخر: يا ما أحرز! فقال ثالث: ويا ما أضاع!

وسعى أمامي الركب الذي لا يعود صاحبه، وأنا أتمتم في غير اكتراث كبير: (الله يرحمه. . . ويعوض علي ما في ذمته!)

وغبرت سبع سنين ورد فيها جدي حياض المنون، ولم يفسح بعده لأبي في رحاب العمر، بل عاجله الأجل الصارم، وتحلبت على أموالنا أشداق الطامعين من الأقارب والأباعد، حتى ليخيل إلي أن لو كنا نؤكل ما عفوا ولا شبعوا.

وكنت رشيد أخوتي فألقيت على كتفي أثقال الأسرة. وكان أفدح هذه الأثقال أن أسترد ما

<<  <  ج:
ص:  >  >>