لأبي وأقضي ما عليه. لقد كان أبي يكره أن يستدين أو يدين؛ ولكن التجارة أركبته برغمه هذا المركب واتصلت بالمدينين فهالني الأمر. هذا مُعِدمٌ يقول: كان بودي. . .؛ وهذا منكر يقول: أمامك المحاكم. . .؛ وهذا مخاتل كتب أملاكه لزوجه فراراً من العدل. فأما الموسر ذو التقوى فيريد أن يدفع المائة جنيه عشرين. فأما الدائنون، فقد حسروا لنا اللثام عن بطش وكيد فإنذاراتهم ما تنفد وعنتهم ما ينتهي.
ودخلت المحاكم فكم أموال أنا في حاجة إليها أخذتها مني، وكم قال لي المحامون: هات.
وادركني اليأس من طهارة الذمم، وروعني خراب الضمائر، وثقلت عليَ وطأة الحياة، وأصبحت لا أتبين في غمرات المظالم طريقاً
وقعدت يوماً في متجري أرسل فكري في ظلمات الأحداث المحدقة، وأنعى متوجعاً على المحيط الذي أنا فيه خلوه من رجل يستوحي الضمير ويقدر الشرف، وأدير عيني في مكان أبي وجدي فلا أراهما، وغشيني همَّ أذهلني عما حولي فترة، فما نبهني غير صوت غلام في نحو الثمانية عشرة يلبس جلباباً قذراً وطاقية رخيصة ويحمل علبة صفيح صدئة يقول لي وهو يمد يده إلي بالعلبة: يا عمي محمد! خذ حقك واحداً وستين قرشاً. قلت مستغرباً: أي حق يا بني؟ قال: حقك. . . ثمن الدقيق الذي اشتراه أبي أحمد الناجي، وثمن الحلاوة الطحينية التي أعطيتنيها.
وغمرتني الدهشة، فقد طوى النسيان مساحبه منذ سنين على أحمد الناجي. ولكني سرعان ما ذكرته. ذكرت لهجته، وذكرت فقره، وذكرت جدي وأبي وما قالا في شأنه وما فعلا، وذكرت الدقيق والحلاوة، وذكرت قوله لابنه وهو يحتضنه في حنان وأسف: يا بني المسكين. . . تأكل مما يقترض أبوك.
ذكرت هذا كله، وتفكرت فيما أرى من الغلام، فهزني هذا التصرف الكبير منه، وكأني أمام حادثة من خيال الشعراء، وقلت جاداً: خل هذا المبلغ لك يا بني؛ فأجاب في تمرد وقد اربد وجهه: أتريد أن يدخل أبي النار؟. . . لقد قال لي وهو في أشد التعب قبل أن تصرخ عمتي بأنه مات بوقت قصير، قال لي: يا علي! إذا أراد الله لك أن تشب وتجتاز السنين وتكسب شيئاً فلا تنس أن تسد ثمن الدقيق والحلاوة. وما دمت كبرت واشتغلت في مصنع السجاد بخمسة قروش في اليوم فلابد أن أقضي دين أبي ليدخل الجنة. . .