لعلها حنقت على حينما تقدمت إليها في لوعة صامتة ثائرة ورجوتها أن تبكي وان تسرف في البكاء؛ ولعلها أنكرت مني أن أفاجئها في وحدتها وقد استنامت إلى أحزانها وأسلمت أفكارها إلى ذلك الفضاء الرحب الواسع الذي نود لو نفر إليه، وان كنا نجهل أين مكانه منا وأين السبيل إليه! لقد كنت اعلم يقيناً أن هذه الكلمات التي اصطلحنا على تسميتها كلمات المواساة، والتي تعود المرء منا أن يلقيها على مسامع المحزون، لا تحمل عن هذه المسكينة شيئاً مما ترزح تحته من أعباء أثقال، وكنت اعتقد أنني إذا كنت لا املك إلا الوقوف بجانبها افرض عليها سماع كلمات المواساة المحفوظة، واحتم عليها أن تزدردها كلما تزدرد قطع الثلج، فخير لها أن تظل هكذا في ذهولها وأطرافها، لعلها واجدة من خداع الخيال ما ينسيها شيئاً من رهبة الحقيقة الواقعة، ولو إلى فترة قصيرة! لكني كنت احبها، وأتألم لها، وكان هذا الحب من القوة والعنف، بحيث ينكر علي أن أظل واجمة وهي تكاد تحترق أمامي في صمت، وان اقف مكتوفة الايدي، بينما أرى ذرات كيانها المضطرب تكاد تتبخر في الفضاء الأثيري المخلخل بعد العاصفة. . . آه! كم كنت أود أن احترم صمتها، وان اتركها في جلستها المفجعة ومكانها المنفرد؛ ولكني خشيت أن يهدمها الحزن المكتوم. وكان لابد لي أن أقول شيئاً، فلم أجد ما أقوله إلا أن اخذ رأسها بين يدي وألح عليها أن تمعن في البكاء
لم تكن هذه الفتاة من أولئك الفتيات اللائى يحملن قلوبهن في اكفهن ويخرجن بها إلى الأسواق للبيع أو الاستئجار، وكان كل من يعرفها لا يكتم إعجابه بذكائها وجاذبيتها وسمو اخلاقها، ولكنها كانت لا تكترث لشيء من هذا إلا كما يكترث الغني ببضعة مليمات! كانت تعلم يقيناً أن اثمن شيء لديها، هو قلبها الحي الكبير، وكانت تعتز به اعتزاز الإنسان باثمن ما يملكه؛ وكلما أثنى الناس على ذكائها أو حسنها، ابتسمت ابتسامة يتجسم فيها عدم الاكتراث، وتساءلت في نفسها: إذا كان هذا هو مقدار احتفال الناس بتلك الظواهر المادية التافهة، فكم يكون مدى احتفالهم بالكنز الذي في صدرها؟! ذلك القلب المليء بالحياة، الشغوف بالتضحية، النزاع إلى المثل العليا، والذي يود لو تتاح له الفرصة لإسعاد