للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الآخرين!

ولقد أحبت هذه الفتاة! أحبت بكل ما في طبيعتها من إسراف وغلو، وبكل ما في قلبها من قوة وحياة، وما في نفسها الشعرية من ثورة وحرارة! وكان حباً نبيلاً تسامى شيئاً فشيئاً حتى تخلص من أدران الماديات. . . ولعل الشاب الذي أحبته لم يكن بادئ ذي بدء يفهم معنى ذلك النوع من الحب، ولكنه أدرك على ممر الأيام أنها قدمت إليه قلباً من ذهب، وحباً نبيلاً أشبه بالخيال لغرابته وندرته، فهاله ما قدمت، وصمم على الاحتفاظ بحبها حتى يضمهما اللحد، وعلى أن يمهد لها حياة سعيدة ولو كلفه ذلك حياته. واستبد به بعد ذلك حب قوي غلاب جعله يرى الحياة بدونها جحيماً لا يطاق؛ وكان كلما تسامى إليها وتوغل في فمها ودراستها، اتضحت له قيمة ذلك الحب الذي لا يعرف الأثرة ولا الاستهتار، وغمرته لذة روحية تجعله في شبه ذهول. . . ذهول الحالمين السعداء

عرفته في أكتوبر سنة ١٩٢٩، وكان لا يزال طالباً بالسنة الأولى بإحدى المدارس العليا، وكان تعارفهما طبيعياً ووليد المصادفة البحتة. فقد نزح والداه من الريف إلى القاهرة، ليحميا وحيدهما من بلدة المغامرة واللهو والفساد؛ واتخذت الأسرة مسكناً متواضعاً في بين كانت تسكن به أسرة الفتاة؛ ومرضت الأم مرضاً أقعدها عن مباشرة أعمال أسرتها الصغيرة، فتطوعت الفتاة لمساعدتها، لأنها جبلت على حب الخير؛ ثم كانت ساعة من تلك الساعات التي ينسى المرء فيها نفسه وتقاليده وأرادته، فتقابلت الفتاة المحتجبة الحريصة، بالفتى الشاب المثقف، ولم يكن لأحدهما يد في تلك المقابلة. كان ذلك في مساء ليلة ليلاء من ليالي الشتاء القاسية، وقد آوت الجنوب إلى المضاجع فراراً من ثورة الطبيعة؛ ولاذ الناس بالبيوت ينشدون الدفء في صمت وسكون. وكان هناك شعاع حائل ضئيل، ينبعث من نافذة الأم المريضة، ويفنى بعد قليل في جوف الظلام. وقد رقدت المسكينة حين استبدت بها نوبة قاسية أذهلتها عن كل ما حولها؛ وكان صوت الريح يذهب بأنات الأم العليلة، فلم يكن يسمعها أحد سوى الشبح الأبيض الواقف بجانب سريرها، كأنه ملاك هبط من السماء. كان هذا شبح الفتاة النبيلة الحنون التي قامت بتمريض العليلة. وفتح الباب فجأة، ودخل الابن الشاحب المحزون يصحبه الطبيب، فلم تتمكن الفتاة من الخروج، فقد كان عليها أن تصغي إلى تعليمات الطبيب، وان تشرح له ملاحظاتها عن درجة حرارة

<<  <  ج:
ص:  >  >>