العليلة، وبصاقها وطعامها، ولم يتمكن الفتى من الخروج، فقد كان الممرض الليلي لامه، وكان عليه أن يصغي لما يقوله الطبيب، عن سير المرض؛ وهكذا جمعهما الحزن المشترك؛ وأنستها رهبة الموقف، وشدة تفجعها للمريضة وابنها، ما درجت عليه من تحفظ واحتجاب
وكان لابد للفتى بعد أن شفيت أمه أن يشكر تلك الإنسانية النبيلة، وكان لابد لها أن ترد على رسالته، لتؤكد له أن ما قامت إلا بواجبها الانساني، ثم اختفت تلك المراسلات الرسمية، لتفسح المجال للتراسل الأخوي والتفاهم الروحي، بين الشاب المعجب بنبل الفتاة، وبين الفتاة الثائرة الحنون؛ ووجد كلاهما لذة مبهمة في ذلك النوع من الإخاء والصداقة، ولذ لهما أن يفرجا عن أنفسهما بالكتابة، وكلاهما يفهم أخاه ويحيا في بيئة تكاد لا تسمح لهما باستنشاق الهواء
لم يكن مرض الأم الذي أصابها في شتاء عام ١٩٢٩ والذي كان سبباً لتعارفهما، إلا نوبة من نوبات مرض صدري يرعى في رئتها ويأتي في مهل على ما احتازته المسكينة من جلد واصطبار، وهاقد تمكنت العلة منها وأصبحت شبحاً هزيلاً يدب إلى القبر، ويهدي أخر أنفاسه إلى حياتنا العاجلة
وقرر الأطباء أن تبادر العليلة إلى مصحة حلوان. . . وإلا عجل إليها الموت؛ ولكن كيف؟ أن الوالد الشيخ لا يملك إلا ما يسد به رمق أسرته الصغيرة، كان يملك بضعة فدادين في مديرية الشرقية، وكانت زوجته تملك شيئاً من الحلي، فبذلا كل ذلك عن طيب خاطر في تعليم وحيدهما، ولكنه نال شهادة التعليم ليعلقها على جدران الحجرة الحقيرة التي استأجروها أخيراً يقيموا بها. ثم قبع في كسر داره بجانب أمه العجوز المريضة، وأبيه الشيخ الفاني! وإلا فهل يجمع الصبيان في الطرق ليلقى عليهم الدروس، ويطبق مبادئ روسو وأراء فريدريك هربرت سبنسر مستعملاً (هدايا) فروبل و (جهاز) مدام منتسورى؟ أم يفتح مدرسة أهلية قد تراكمت المدارس في أحياء البلاد، وهو بعد لا يملك ما يشتري به الدواء لامه المصدورة العليلة؟
كان مرهف الحس مهذب الوجدان، وقد عز عليه أن يفقد أبوه ثروتهما في سبيله، حتى إذا ما بلغ مبلغ الرجال كان حميلة عليهما. كان يشعر بأنه مسئول عن كل ما أصاب ويصيب