كان شعاع شمس الشتاء يسطع في جو القاهرة ويتألق في السماء اللازوردية، ويريق ضوءه القرمزي على المآذن والقباب فتتوهج أطرافها في الضوء الساطع كما يتوهج الذهب في كف الرجل الكريم. أما أسطح بيوت القاهرة فكانت فرصة لها لتداعب هذه الأشعة - تلك المداعبة الصحية - والريح تعبث بالأوراق والغصون في حدائق قصر النيل الغناء.
وكنت في خلال هذا الوقت وحيدا في غرفتي، شاعرا بأن السكون يطبق علي كجناحين كبيرين، ومنصرفا إلى دراسة بعض كتب الأدب العربي القديم لأقارن بين عصر وعصر، وبلغ بي التعب أشده من عكوفي على القراءة ومحاولة تفهم معاني الكتاب لأنني كنت أميل بفطرتي إلى تحليل أفكار المؤلف والوقوف على المعاني المستترة في باطن الكلمات. ولاح لي أنني أشبه بغواص يجاهد في بحر من الظلمات ليستخرج منه اللآلئ والأصداف. وما أمر العكوف على قراءة الكتب الخطية في بلاد الشرق؟ تغلق باب الغرفة دونك وتحاول أن تظل بمعزل عن العالم لتمثل في خاطرك العصر الذي عاش فيه المؤلف والظروف التي كانت محيطة بها، وإنها لمعجزة أن يظل الكتاب مهملا سنوات برمتها، فما تكاد تفتحه حتى تهب عليك النسمة القديمة بسحرها وعطرها وتسمع كلام المؤلف أو صوت الشاعر كأن لم يغيره تقلب الحوادث وانصرام الأجيال
وفيما كنت أقلب هذه الأفكار وأشباهها إذ طرق الباب، وكان الطارق صديقي محمد أمين حسونه، أتى لزيارتي ودعوتي إلى نزهة خلوية في ضواحي القاهرة. وكانت الزيارة في يوم الجمعة - وهو يوم عطلة عامة في البلاد الإسلامية - ففي هذا اليوم المقدس تعطل المصالح والدواوين وتقفل الحوانيت، ويتحتم على المسلمين أن يهرعوا إلى المساجد إذا سمعوا صوت الآذان. أما الآخرون الذين لا تربطهم بالتجارة صلة فهم يقضون ذلك اليوم