[حقائق عن المادة والفكر أيهما أصلح طريقا للمعرفة؟]
للأستاذ فؤاد طرزي
الحياة لا تعرف الثبات ولا الاستقرار؛ بل هي في تغير مستمر وفي نزوع دائم نحو التجدد والتحول، تستقر فيها جراثيم التوالد التي لا تنى تنقلها من حال إلى حال منذ الأزل وإلى اليوم وحتى يدركها الفناء. وهذه الخاصة الحية هي نداء الضرورة المطلوبة لإيجاد التوافق بين التغييرات الطبيعية والتبدلات التي تشمل مظاهر الوجود، وبين الكائنات الحية التي لا توجد إلا وهي ساعية نحو الكمال والسمو مهما اختلفت الصور التي تختارها لتعرض نفسها على مسرح هذا الكون.
وقد أطلق على هذا الجوهر الأصيل في طبيعية الحياة اسم التطور، وهو يدل على أن كل ظاهرة من ظواهر الوجود توجد في آن واحد، أي أنها تعمل على خلق حال جديدة لها في نفس الوقت الذي تحيا فيه على حال معين. وبعبارة أبسط إنها تتجدد وتتجدد إلى أن تهرم وتموت. سمة التطور أو الديالكتيك أو ما شئت له من المسميات ولكن بعد أن تعرف أنه الأساس الذي تقوم عليه الحياة وأنه مفروض على الأحياء والجمادات وهو يعمل من غير أن يُطلب أو تُراق لاستحضاره الدماء، بل إن كل ذلك لا يبدْل غايته ولا يغّير وجهته.
كل هذا الذي نقوله متفق عليه من جميع الفلاسفة وعلماء الاجتماع، وهو ثابت بالبراهين الجلية والعلمية لا ينقضه برهان أو ينكره إثبات، ولكن الاختلاف هو في ماهية هذا التطور أو في الدافع الذي يحركه في سيرة الدائب: فمنهم من يرجع هذا الدافع إلى عوامل مادية، فيقرر أن المادة هي الكل وهي التي تقود التاريخ وتوجه الأحياء، وهي الأصل المفرد الذي لا ينازعه أصل والإله الحقيقي الذي لا يشاركه إله، أو هي - كما يقول انجلز - دورات الوجود الأبدية التي تتم بها الحياة. وأما الآخرون فيؤمنون بأن الفكر الملهم هو الذي يسوس الوجود، وأن العقل المدبر هو الذي يمسك بزمام الطبيعية وهو الذي ينفث القوة في المادة فتكتسب الحياة أو يتركها طينة باردة لا تقدر على الحركة والتحول والإيجاد. فالفكر هو الخالق وهو المبدع، وفي خلقة وإبداعه يستوحي سنة أبدية تعمل بغير انقطاع؛ هاتان الفكرتان ظلتا تتنازعان تارة في ميدان الفلسفة وحينا في ميدان الإصلاح، وأخيراً ظهرت إحداهما وهي الفلسفة المادية في شكل مذهب يعد إقامة المجتمعات وفق أصوله وقيمة.