وإذا أردنا النزول إلى ميدان البحث المقارن، ورغبنا في وزنهما من حيث الأساس الذي قامتا عليه، وجدنا أن التفسير الفكري أقرب إلى الحقيقة التي يتركب منها التطور وأدخل في باب الشروح العميقة التي لا تحكم على المشاهدات المحسة ولا تقنع دون النزول إلى أبعد الأبعاد للتعرف على ماهية الموجودات وهذه جملة أدلة نثبت صحة ما نقوله:
(أولا) المادية امتداد والفكرية عمق. والفرق بين الامتداد والعمق أن الامتداد يشغل مكانا يظهر للعيون والأبصار، وأما العمق فيخلق من غير أن يظهر للحواس فهو يُعرف بالبحث المجرد والتأمل النظري أو هو الحقيقة الفعالة وراء العضويات ينفث فيها الإكسير مادة أثيرية جرى العرف على تسميتها روح الحياة. وإذا أردنا أن نضرب الأمثال لنظهر الاختلاف في هذا بين الماديين والفكريين فلنأخذ ظاهرة اجتماعية كبرى تكاد تكون حادثاً فاصلا في التاريخ، وهي معروفة للجميع، إلا وهي الثورة الفرنسية.
فإذا قلت للماديين ما الذي أشعل نار هذه الثورة؟ أجابوك بأنه السعي وراء الخبز أو الانقياد وراء المادة، يتمثل في ثورة الجياع على المترفين، أو هي شكل من أشكال النضال الطبقي بين المحرومين والمتخومين. وكيف لا يكون ذلك وهذه الجماهير خرجت ثائرة تصرخ (نريد الخبز). أيوجد أكثر من هذا السبب الواضح الذي يؤيد رأينا؟ دون شك أنك تلاحظ أن هذا التفسير الذي عرفناه بأنه التفسير الذي لا يوغل في الأعماق ولا يتعرف إلى الماهيات من معرفة أصولها وجواهرها، وأصحابه لا ينفذون إلى أبعد من مرأى العين ولا إلى ما وراء البصر، في حين أن العين لا تستطيع الإحاطة بأكناه الأشياء، وأن البصر ليس بمقدوره أن يواتي البصيرة الوقادة التي تخترق الحجب وتهتك الأستار لأنها تدرى أن وراء الجسوم قوة مجهولة ووراء الأشكال الظاهرة عوامل مسيرة دافعة. إن الثورة الفرنسية تبدو ثورة من ثورات الجياع لمؤلهي المادة، ولكنها في الحقيقة ثورة أوقد نارها الفكر الثائر قبل أن يضرمها الخبز، وأنها لم تكن لتحدث لو لم يقدح زنادها هذا المشغل المحرق. ولنعلم أن الإحساس بالظلم لم يشعر به الكادحون الذين كانوا في خدر لذيذ يرون العبودية جزءاً من الحياة لا محول عنها بعد أ، لصقت كأشبه ما يكون بالقانون في ضمائرهم، بل أن الذين شعروا به هم المفكرون الذين أيقظوا النائمين ووضعوا خطط التحرير. فهؤلاء المفكرون أحسوا بالظلم وتألموا من الاستبداد في الوقت الذي كان فيه الجائعون ينظرون