أعترف بأني مقبل على متاعب في تحرير هذا البحث، لأني أكره أن يكون ضرباً من الحديث المعاد، وما تريد (الرسالة) في مثل هذا العدد أن تعيد كلاماً فرغ منه الناس منذ أجيال
وأعترف أيضاً بأني لا أجهل الفرق بين حياة الباحثين لهذا العهد وحياة من سبقهم في سالف العهود، فالمسلمون فيما سلف كانوا يقسمون الجمهور إلى قسمين: قسم العوام وقسم الخواص؛ ولم يكن العاميّ هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، كما نقول اليوم، وإنما كان العاميّ هو الذي لا يترك من مرامي القرآن والحديث ما يستطيع به تعقب أقوال الباحثين بالتعديل والتجريح، ولهذا كان يتفق أن يسير في العصر الواحد آراء تختلف وتقتتل بدون أن يشعر أصحابها بأنهم مهدّدون بسوء القالة بين الناس، إلا أن يكون في آرائهم ما يؤدي الخلفاء أو الملوك أو الوزراء، وهؤلاء أيضاً كان لجبروتهم حدود، لأنهم كانوا في الأغلب من أكابر الرجال، وعلى علم بالزائف والصحيح من الآراء.
أما اليوم، فمن حق من يقرأ ويكتب أن يعد نفسه من الخواص، وأن يتعقب الباحثين في الشئون الدينية كيف شاء، ولو لم يتفق له الاطلاع على كتابٍ واحد من كتب الفقه والحديث
وأقول بعد هذا التمهيد: إني سأفترض قلمي باحثاً يقف من الإسلام موقف الحياد؛ فقد مضى الزمن الذي كان يقال فيه:(اللهم إيماناً كإيمان العجائز)؛ فذلك الإيمان لا ينفع في هذا الجيل ولم يبق له مكان. وأنا أعتقد أن الرجل الذي يكفر بعد اجتهاد الأقوياء، أقرب إلى الله من الرجل الذي يؤمن بعد استسلام الضعفاء. وهل تهون العقول على واهب العقول؟
وإنما يقف قلمي من الإسلام موقف الحياد، لأني أريد أن يقوم هذا البحث على قواعد علمية لا خطابية، فهو موجه إلى قراء اللغة العربية، وفيهم ألوف من غير المسلمين، ومراعاتهم واجبٌ مفروض، ومن الحتم أن يخاطبوا بالعقل قبل الوجدان.
يضاف إلى هذا أن الإسلام كان في جميع أطواره ثورة عقلية، فمن أراد من أبنائه أن يجرده من تلك المزية، فهو عدوٌ يلبس ثوب الصديق.