للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[لسان الدين بن الخطيب]

الصفحة الخيرة من حياته

للسيدة الفاضلة منيبة الكيلاني

مد الليل أروقته السوداء في غرناطة الأندلسية العظيمة، واتشحت سماؤها المرصعة بالنجوم الزاهرة تلك الليلة بالغمام، وتضاحك البرق من عربدة الرعد المدوي، وتهادى الثلج نازلاً بأناة وكرم يكسو بالبياض كل ملون. . . ويتراكم طبقات بعضها فوق بعض، وخلت الدروب من كل صوت ونأمة. . .

وسرت عدوى السكون العميق إلى قصر أبن الخطيب الباذخ فما كان يسمع فيه شيء مما اعتاد أن يزخر به إلى القصر العتيد من صوت القيان أو نداء المزاهر، وما كان يري في أكنافه الرحيبة من وراء الكوى، إلا ضوء واحد يمرق من نافذة في غرفة رب القصر، وان كان قد انتصف الليل من وقت طويل.

وهدر الرعد من جديد، ففتحت على أبن الخطيب بابه فتاة في مقتبل العمر وانزاحت من الباب رفيقه إلى حيث يجلس الكهل، وتقدمت إليه تحييه وتقول له في دل:

- أو لا تزال يا عماه مسهد الجفن تكتب والناس رقود؟

فيرفع أبن الخطيب رأسه ويمد بصره إلى ابنة اخية، وقد أضنى عينيه ضوء الشموع وصفحة الكتاب ويقول لها:

- إن الذي ميزني يا ابنتاه عن الناس الذين تسمين، إنما هو هذا السهاد وهذا الاعتكاف، وما بلغ امرؤ يا بنتاه في غطيطه ما يبلغ الساهر في سبيل العلم، ولو درى أولئك السادرون في غوايتهم أية لذة أطعم، وأية العادة أذوق، لاستبدلوا بالفراش المحابر، ولأوغلوا فيما أنا في سبيله. . . ألا يستوي جاهل وعالم، وساع إلى الراحة ومتشبث بأذيال العلم. . . وهذه غرناطه تعلم أن شيخها يسهر والناس حوله نيام، فيصيب من سهرة ما يميزه عن النائمين والغافلين. . .

ثم يعود الشيخ إلى نفسه ويستدرك ويقول:

- وأنت يا ابنتي ما بالك بارحت الخدر وأنت إلى الرقاد أحوج من شيخ غرناطه؟. . . اهو حلم لذيذ أرسلك إلى عمك تقسمينه خبره؟ فتجيبه: لقد أيقظتني جلجلة الرعد، فما

<<  <  ج:
ص:  >  >>