وتجلس الفتاة، فيسألها عمها أن تكتب له الصحائف الباقية من كتابه (الأصول لحفظ الصحة من الفضول). فتكتبها وهو يميلها عليها. . . وتنتهي فتعلق الفتاة عليه بأنه عمل متعب قد يؤذي صحته الغالية. فيقول لها:(يا بنتاه، العجب حتى مع تأليفي لهذا الكتاب الذي لم يؤلف مثله في الطب، فإني لا أقدر على مداواة داء الأرق الذي بي). فتقول مجيبة: (ولكنه يا عماه أرق مفيد على كل حال، وهل تنكر فضل الأرق الذي أخرجك في الفلسفة والطب والتفسير والحديث والفقه والتاريخ وعلوم العربية من شعر بارع ونثر بديع؟
فيبتسم الشيخ ابتسامة استكبار وتيه. . . ولم تكن الفتاة مجاملة ولا مراوغة في هذا الذي قالت، فقد عرفته الليالي طالب علم ورجل جد، وعرفه أساتيذ غرناطة ذكي الفؤاد، واعي البصيرة، سديد التفكير.
ويغرق لسان الدين في فكره طائرة، وتسهم مقلتاه الزرقاوان في غير وعي. . . فتقول له ابنة أخيه: (لقد فرغت يا عم من مطالعة ما زودتني به من كتاباتك، فراقني منك شعر الغزل الجميل في هذه الموشحات التي رصعتها بما يعيا به الصاغة الماهرون، وأعجبني كلام الأتقياء، ولكني وجدت في رسائلك التي تتندر بها على الحال الاجتماعية سجعا غريبا، وإطالة لا عهد لك بمثلها، فقد أطلت فيما كتبت وأطنبت في التصوير إطنابا خيل إلى معه انك قد ملئت من الفكرة الصغيرة صفحات، فهل ستنسيك السياسة ذياك الأسلوب والنغمة التي فتنت بها غرناطة ورقصت عذاراها زمنا؟
وهنا يتبسم لسان الدين مرة أخرى، ويهيب بفتاته أن تعود إلى مخدعها، فقد انقطع الرعد، ولم يبقي من الليل إلا رمق، وانه ليرى أن السهاد قد يضر جمالها الضحيان. . . وإذا تذهب يقيم لسان الدين يفكر، ويعمل الرأي في هذه الأحداث التي توالت ادراكا، ويبحث هذا القلاقل السياسية التي أوشكت أن تؤدي بأدبه الغض وخياله الرائع. . . لقد صدقت بنت أخيه، فأن السياسة التي فتنته قد انبرت تخرس تلك النغمة السائغة المنسابة التي أرقصت عذارى غرناطة زمنا، وهذه الفتنة لا يدري هو أيضاً كيف استحوذت عليه، فتبدل بالعلم والأدب السياسة ومشتقاتها، وأقام برهة يتفكر في عواقب الأمور وما قد تجره عليه من وبال، ووقر في نفسه أن ينتقل إلى هامش أن هو استطاع إلى ذلك سبيلا.