ثم يعود فيمد بصره في الماضي، حيث كان السلطان أبو حجاج يوسف يعطف عليه، ويقرب مجلسه، ويستأنس برأيه، وقد اختصه بكتابته، واجرى عليه صنوف الرفد والعطاء، فانتج ما شاء له الإنتاج، وأبدع ما وسعه الإبداع.
ثم يموت أبو الحجاج يوسف، فيخلفه ابنه محمد بن أبي الحجاج وهو الفتي الذي خدمه أبن الخطيب اصدق خدمة ووفاه أقصى حقوق الولاء، فجزاه معروفا بمعروف وخيرا بخير، وأبقاه في مكانه وضاعف له الرعاية، ولكن الفتنة الراقدة تململت، وحجب الناس لأخي الملك الجديد أن يناوئ أخاه ويزعج نفسه، فهو لا يدري كيف يأخذ ولا ماذا يصنع. وقد قال له هذا الأمير المحق أن يتبين له وجها من الرأي ودربا من الرشاد ينفذ منهما إلى صرع الباطل والحسد الاثيم، ولابد لابن الخطيب من نصيحة يسديها لمولاه ضحى الغد، وهو الذي عرف عنده أصالة الرأي وسداد الفكر، فماذا تجدي عليه هواجسه من السياسة ومشتقاتها ومغبتها، وهي مفروضة عليه يحتمها الولاء والوفاء لمن والاه ووفاه حقوقه.
هنا ينبلج الصبح ويقطع على لسان الدين التأمل رسول الملك فقد جاءه يخبره بأن الملك يريد البراح بعد أن أخفقت كل محاولة في تحسين الحال، فيخف إليه أبن الخطيب تاركا المهاة في خدرها والكتب في أدراجها ويبارحان المملكة. . . وقد تقطع قلب لسان الدين لكلمة وداع لابنة أخيه المساعفة وكلمة وصية بكتبه فما افلح.
ولم يكن الهروب لينجي أبن الخطيب، فقد وقع في قبضة السلطان الجديد، وأراد التنكيل به لولا أن سلطان المغرب الذي شغف بأدبه وعلمه يحميه من البطش، ويمهد له من مدينة فاس أرضاً صالحة خصيبة تواتي قريحته، فيرسل زفرته الخالدة:
جادك الغيث إذا الغيث ... همي يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن ووصلك إلا حلماً ... في الكرى أو خلسة المختلس
وتلفقها أبنة أخيه، وتقرؤها على أترابها، وتتيه بها إعجاباً وفرحا. . فلقد ارقص لسان الدين عذارى غرناطة من جديد.
هنا يتأزم الوضع في غرناطة تأزماً جديدا ضد لسان الدين، ويعمل العلماء والفقهاء من أعدائه ضده ويرسلون فيه هجر القول ويرمونه بكل نقيصة، ويرجون فيه إنه كافر، وهم إذ يفعلون ذلك ينتقمون لمنازلهم التي احتلها هو في قلب السلطان الماضي، وينافقون للسلطان