الصبح ينبلج في صمت عميق، وأعقاب الظلمة تذيبها تلك الأطياف المتهامسة من ضياء شمس لا تزال مختفية تحت الآفاق؛ والبحر من بعيد يهدر هديراً لا ينقطع، ويرغى إرغاء لا يلبث أن يزول بعد أن تزول العاصفة، وبعد أن يسكن اضطرابها. . . وهي لا بد أن تسكن. والنيل عن أيماننا يجري زاخراً عارماً في هدوء ووقار، موكب الدهر الجبار قد أثقلته السنون، وملأته الحكمة والتجربة. هذا النيل لا يزال يجري في نظام كأنه في فيضانه وانقباضه بقدر، أغنية خالدة منسقة قدسية تتجاوب فيها الفواصل، وتتردد في مقاطعها أنغام الحياة والبشر.
ما أشبه هذين بأسلوبين من أساليب التفكير والنظر إلى الأشياء. قوم يثورون وينفعلون وتصطخب نفوسهم بالحلو والمر، وتتأجج صدورهم بالعاطفة، وتفيض الكلمات على ألسنتهم تعبر عن قوة الثورة، وحدة الصخب. . . ولكن الانفعال لا يبقى، ولا يخلد، وهو لا بد زائل بزوال علته، وقد يتجدد مرة أخرى وغيرها كما تتجدد ثورة البحر حين تهتاجه العاصفة، ولكنه لابد أن يخمد. وأصحاب هذا الضرب من التفكير أشبه بالشعراء؛ ولكن الشعراء حين يفعلون ذلك يبينون عن خفية من خفايا النفس، ويكشفون عن صورة من صورها التي لا تتناهى، فهم يضيفون هذا إلى تراث النفس البشرية. ولا يجب أن نتناول قضاياهم على أنها حقائق، وإنما يجب أن ننظر فيها على أنها مرايا لحالات تمر بالنفس عابرة؛ فهي إنما تؤخذ ليستخرج منها علم، ولتوضع على مقتضاها الكليات كما يقول المناطقة.
وقوم آخرون يجرون في وزن الأشياء على قياس، يزنون الصغيرة والكبيرة، ويعرفون أن في وجود حقائق باقية خالدة، وأنها جديرة بالكشف، قمينة بالتنقيب والبحث، ينظرون إلى الأشياء من حيث قيمتها في الوجود، ومن حيث بقائها الحقيقي، ومن حيث خيرها الأبعد لا