من حيث خيرها القريب. وهؤلاء لا يأخذ بخناقهم الهوى، ولا يجيبون لداعي الانفعال، وقد يكونون أشد من الطائفة الأولى انفعالاً، وقد تكون نفوسهم أعرق في تأججها وثورتها، وقد يذوبون إشفاقاً وألماً، لما عسى أن يمر به الآخرون مرور العابرين. ولكنهم يعلمون أن الحقائق تطلب لذواتها في غير طويل وقوف عند الآلام والمسرات، ينظرون إلى الأشياء في وقار النيل وانتظام فيضه وانحساره، وفي سكون الصبح واستنارته، قد خلصوا نفوسهم من شوائب الحقد وأدران الشماتة، ونسوا ما لقيت أجسادهم، فسموا بنفوسهم إلى مسالك النجم، وترفعوا عن أوغار الضعة.
كل كائن يستطيع أن يفرح حين يرى عدوه صريعاً تحت أقدامه، فهذه أقرب العواطف وأرخص الأحاسيس، ولكن ليس كل إنسان يستطيع هنا أن يسد بقلبه تلك الثغرة من الفرح وأن يضع يده على موقع ذلك السهم ليخفيه فيه، ثم ينظر إلى عدوه في ألم حقيقي لأن إنساناً قد سقط، ولأن روحاً قد فاضت، ولأن نفساً قد تخلصت من سجون الجسد المغري شيطانه المهلكة شهواته.
هذان أسلوبان من التفكير البشري، ولم أشأ أن أصطنع أولهما، ولكني أصطنع ثانيهما، ولست بهذا متصوفاً، ولست بهذا مرتفعاً فوق الحياة أعيش في برج من العاج، وأحيا في فردوس الأحلام، وأكبر نفسي عن دنيا الواقع بأفراحها وآلامها، فإنما أحسست هذا كله، وعانيت من مره وزقومه أشد ما يعاني بشر، ولكني أدع دائماً في جانب من نفسي بقية من الاتزان والشرف، أضع فيه دائماً مثالاً من مدنيتنا الروحية التي حملها الشرق إلى الوجود أمانة تنوء تحتها نفوس أولي القوة. أضع دائماً نصب عيني ما بشرت به نفوس كرام من آبائنا في كل أطوار التاريخ، وأنابه وفيّ لأهلي وبني جلدتي، آخذ بيدهم إلى المحافظة على أعز ما ورثوه عن ماضيهم، وأقوم ما بشرت به كل الديانات التي نبعت في الشرق، وفاضت على الدنيا خيراً ونعيماً وسعادة. ليس في دين من الديانات التي انبعثت في الشرق دين يطالب بالثأر وإن أمرت كل هذه الأديان بالقصاص، وأجازت إلى جانبه العفو، ونهت عن التمثيل، وكان الغرض من هذا الإصلاح، ولم يكن الانتقام وإلا لما أجازت العفو. ولنا في أخلاقنا، بعد هذا، التي ورثناها عن هؤلاء الأمجاد ما يجعلنا نكبر فوق الضغينة، ونتناول الأشياء تناولاً رحيماً، فيه إباء العفو وكبرياء المتألم الكريم.