في هذا ذلك المعنى الخلقي السامي، وفيه أيضاً محاولة للوصول إلى الحقيقة عن طريق العدل، على طريقة الفلاسفة التي لم ترضك؛ وفيه بعد هذا تطهير للنفس من آلام تخلقها الأحقاد، لا يصلى نارها الجيل الحاضر وحده، ولكن يتلظى بها بعد أجيال تأتي، وتقوم بها في النفس قياماً دائماً مثارات الخلاف، ولا يتحقق بها أبداً بين الشرق والغرب وفاق أو لقاء.
تضرب لي يا عبد المنعم مثلاً بما في أوربا اليوم من صراع تتداعى فيه أركان أقدس ما وقر في النفس الإنسانية من مُثُل وأخلاق حاسباً أن من الخير لنا أن نتبعه فنقول:(إننا نشاهد أمماً حرة مثقفة تحطم حياة أمم أخرى عالمة مثقفة حرة في سبيل إرضاء ما تعتقده كرامتها). . . إلى آخر ما قلت.
إن هذا قائم حقاً يا عبد المنعم، ولكن هل تعتقد أن ما تفعله أوربا الآن يجب أن نفعله، وأن ندعو إليه، وأن نعمل في سبيله؟ هل تعتقد أن هذه الأجيال تعيش ربع قرن تحمل بين جنباتها بذور الحقد، وتنميها وتعمل للانتقام من جارتها، تفكر في هذا الليل والنهار، وتقف عليه كل جهودها وتراحي نشاطها، تصوم لتبني آلة الخراب، ثم تدفع بعد هذا بزهرة شبابها ليحطموا غيرهم وليتحطموا، ولتشقى بهم بعدهم أجيال وأجيال - هل تعتقد أن هذه القطعان البشرية التي تساق إلى الجحيم سوقاً في غير رحمة قد عاشت العيشة التي تطمح إليها الدنيا، وأن هذه النفوس قد نالت من احترام أساتذتها وقادتها ما ترضاه أنت لقومك وبني جلدتك؟ وهل يعوض هذه الضحايا التي لا تنتهي أن يستمتع بالحياة من بعدهم قوم آخرون إن صح أن هذا سيكون؟
إن أمماً كثيرة في التاريخ قد نالت مكانتها في الدنيا عن طريق تحقيق المثل العليا، وهذه قد احتفظ لها التاريخ بأمجد الذكر؛ وأمماً أخرى قد أقامت نفسها على حد تعبيرك - على بركان من نوازع الفطرة الأولى فلم تلبث أن انهارت كما ينهار القصر يبنى على الرمل. ذلك أن تلك المثل الأخلاقية لم تأخذ مكانتها في وجودنا إلى الآن إلا لأن التجربة قد خلصتها واصطفتها، وأثبتت أنها كالحجر الكريم انكشفت للباحث بعد طويل العناء، ومكابدة الآلام، من بين أكداس ضخمة لا تحصى من سقطات الناس وإصاباتهم.
فإن أردنا أن نأخذ صفوف الدعاة فلندع إلى الخير، ولننس الانتقام، أما أن تكون فينا