الوحشية اللازمة لكل حياة كريمة فذلك ما أخالفك فيه إن كنت تريد الوحشية امتلاء النفس بالحقد على عدوك، والتهليل إذا سقط أو أصيب لأن هذه ليست من شيمنا، وأما إن كانت الرجولة والقوة الجسدية، والابتعاد عن النعومة الناشئة عن الترف، ورد المعتدي فذلك ما أوافقك فيه ولا أوافقك على غيره. ذلك أن رد الباغي شيء، والدعوة إلى الحقد عليه والشماتة به شيء آخر، كما أن تقدير سيئات عدوك لا يجب أن تعرف مواضع قواه كما تعرف مواضع ضعفه؛ أما تصويرك إياه كما يحلو لك، وكما تتمناه، وكما يزينه لك هواك ورغبات نفسك فأمور لم تكن في يوم من الأيام سنة من سنن الشرق، ولا تقليداً من تقاليده.
وإذا كنا الآن نقف نفوسنا موقف المؤرخين من هذه الأمة الجليلة فيجب أن ننتحل صفة الإنصاف، ويجب ألا ننسى أولاً أن الناس إخوان، ويجب ألا ننسى المبدأ الذي سبقنا إلى وضعه الغربيين: وهو أن العقاب ليس معناه الانتقام ولكن غايته الإصلاح؛ وسيكون من هذا لأعدائنا درس إن صح وصفهم بهذا الوصف.
إن لمدنية أوربا وجهين ككل مدنية: وجه مادي ووجه معنوي. أما المادي فهو تلك الصور الظاهرة التي تتكيف فيها سبل العيش ووسائله. وأما الوجه المعنوي فهو الخلاصة المجردة لتلك المبادئ التي تنتظم على مقاييسها العلاقات بين الأمم والأفراد. وهذا الوجه الأخير تجده في تاريخ كل أمة شاملاً لكل مثلها في الأخلاق والشرع ولكل ما عسى أن يكون قد استخلصته عقول أبنائها من أصول علومها وفنونها ومختلف صور حضارتها. وتجد هذا دائماً في عصور اتزان النفس البشرية، وفي فترات اطمئنانها، وفي الأيام التي لا تهتز فيها لحادث جلل: تجده دائماً بحيث يرمي إلى تحقيق الخير المطلق للناس على السواء، في غير نظر إلى أمة دون أخرى؛ أي أنه ينتفي فيه حب الذات والأثرة الفردية أو القومية. فلا تكاد تحس فيه تلك النعرة العنصرية التي إنما تكون دائماً رد فعل لحس الضعف الطارئ على أمة من الأمم لنكبة أصابتها، ونازلة حلت بها فزعزعت من إيمانها بنفسها فهي تحاول التغلب على هذا الضعف، وتقوية نفسها بتلك النفخة تصطنعها وتدعو إليها، وقد تنخدع بصوابها، فتؤمن بأنها حق، وتغلو في الإيمان بها حتى لترفع بها نفسها على هام الشموس. وقد يكون الداعون إلى هذا في الأمة المقهورة الباحثة عن التعويض أتفه الناس ولكنها تستجيب لهم، وتهتدي بهديهم لأن دعوتهم صدى لذلك الحس الفطري الذي يدفع إليه قانون