ولذلك يجب إهمال هذا الوجه الشاذ لأنه عابر في حياة الأمم وإن ترك أثراً إيجابياً في حياة بعض الأجيال، فتبقى الصورة الإنسانية التي تحدثت عنها، وهذه تكون نظرياً سليمة لا غبار عليها، ولكن يأتي دور التطبيق فتتعرض هذه المثل لغوايات الأفراد، وتضطرب بها الأهواء، ويعمل فيها قرب الفرد وبعده من الحيوانية التي لا تزال عنصراً أساسياً في كيانه.
ولقد ضربت لهذا مثلاً في كلمتي السابقة باستيقاظ العصبيات في الإسلام مع نهيه عنها ومع ما حاوله من قتلها ولما يكد يمر على بدء الدعوة نصف قرن، وقلت إن الأمم في هذا سواء، إلا أنها تفترق في ذلك القدر الباقي في نفوس أبنائها من أثر تهذيب تتركه التعاليم، أو يسطره عليها قدم عهد بالحضارة المادية. فإذا كان بعض أبناء الأمة الإسلامية قد أثاروا العصبية فتركت هذه مضاعفاتها في حياة المسلمين وتاريخهم فليس ذلك ذنب الإسلام، ولا ذنب تلك الطبقات منهم التي دعت إلى أسمى المبادئ، وحاولت بها أن ترتفع بالإنسان عن مرتبته الحيوانية فأباه عليه طبعه وارتد إلى حيث كان. ولكننا في الحكم على المسلمين ننسى دائماً سيئات الأجيال التي لم تحسن لنذكر ذلك الإرث الخالد في تاريخ الإنسان (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) فالشر عابر والخير باقٍ دائماً، لأنه حقيقة منتزعة من صميم النفس عن طريق التجربة والامتحان.
لهذا قلت لك يا عبد المنعم إننا إن حكمنا على فرنسا فيجب أن نحكم عليها على أساس ما سيبقى من عملها للناس، وما عسى أن تكون تركته من أثر في خطوات الإنسانية في السير إلى غايتها البعيدة. كما أني قلت لك قولاً أساسه الحق يوم فرقت بين عمل الساسة وعمل الأمة كلها، وفعلت هذا بناءً على تجربتي، فقد عشت بين هؤلاء الناس في بلادهم وبلوتهم، فعرفت فيهم سلامة الطوية وحسن المعاملة، والمساواة في عدل اجتماعي لم يكد يتحقق في أمة من الأمم في كل أدوار التاريخ إلا في هذه الأرض التي نكبت. إن مستوى الفرد في فرنسا من كل نواحي حياته كان أرفع منه في أي أمة أخرى. فالتعليم كان إجبارياً حتى السادسة عشرة، والتعليم العالي بالمجان بحيث يقدر عليه كل إنسان أراده، والمحاضرات العلمية في كل مكان وفي كل وقت من أوقات الليل والنهار حتى تصبح ملكاً مباحاً لكل طالب علم أو باحث عن حقيقة، حتى أصبحت فرنسا كلها متعلمة. وكانت بعد هذا حريصة