للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

على كل لون من ألوان الحرية. وأنت تعلم أن العلم مع الحرية يترك السبيل دائماً لوضوح الشخصية وحس الذات. ومن هنا تعددت المذاهب وكثرت الآراء حتى لكأن في كل فرد أمة، فكان من طريق الخير نوع من الانفصالية أساسها وضوح النظر واستنارة التفكير. وكان من هذا انهيار فرنسا لا لشيء إلا لأنها تمسكت بمُثُلها وأبت أن تتخلى عنها.

ولست أعرف حتى الآن هل كان الخير في هذا أم أن الخير في ذلك التكتل الحديدي للأمة بحيث لا يحسب فيها حساب لحياة الفرد ولا لحريته ولا لسعادته ولا لعقله. وعندي أنه ما لهذا خلق الناس.

ليس انهيار فرنسا يا عبد المنعم لأنها كانت قائمة على (بركان من التفسخ العائلي) الخ. . . فإنني كنت أعرف في صميم باريس عائلات من المحافظة، بحيث لا تستطيع أنت ولا أستطيع أنا إلا أن نرميها بالرجعية. وما كان عليك لتدرك معنى العائلة الفرنسية إلا أن تعرج قليلاً على بلد من ريف هذه البلاد لتفهم حقاً هل تهدمت العائلة في فرنسا أم لم تتهدم. إن بعض الدعاوى القائمة على الجهل تنتشر أحياناً لسوء الحظ حتى لتصبح أشبه بالمسلَّمات، لأن الجمهور كما قلت لك لا يستطيع تحقيق كل ما يلقى إليه.

إن فرنسا قد هدمت نفسها من حيث أرادت أن تبنيها، فقد أعطت كل ابن من أبنائها حق الحياة كاملاً، وحق القول والفكر كاملاً، والمسئولية الاجتماعية عبء ثقيل على الأفراد. فأصبح دفع الضرائب عندهم ثقيلاً، وأصبح إنفاق مليم واحد على الحرب ومعداتها أمراً يتشاجر من أجله النواب، ويضج منه الشعب، لأن كارثة الحرب الماضية كانت لا تزال عالقة بالأذهان، ولم يكن أشق على الفرنسي من التفكير في الحرب. كانوا يؤثرون أن تنفق هذه الأموال على التعليم، وعلى رفع مستوى الحياة، على أن تنفق على المدافع. وهذا هو الذي حدا برجال الحرب كبيتان أن يقولوا: (إن الفرنسيين كانوا يطالبون الدولة بأكثر مما يعطونها). ففرنسا هدمت نفسها مؤقتاً لتبني مثلها، وأقول مؤقتاً لأني لا أشك في أنها ستهب في القريب العاجل جداً، فإني لا أعرف أمة يكمن فيها من الحياة ما يكمن في هذه الأمة، ولا أعرف فرداً قد ربي فيه الوازع الشخصي بمثل ما ربي في الرجل الفرنسي. ولا أعرف جنديَّاً قد ربي على خشونة العيش فهيئ لتقبل طعم الحياة في خيرها وشرها مثل الفرنسي.

<<  <  ج:
ص:  >  >>