إن السير في تربية الأمم على هدى المثل الأعلى قد لا يحقق النصر العاجل، ولكنه من غير شك يخلق الصلاحية الحقيقية التي تكفل السيطرة على المستقبل.
أما أن تقول أن بيتان وفيجان قد انقلبا بين عشية وضحاها بوقاً من أبواق هتلر فتلك دعوى قد ينخدع بها البسطاء، ولكن لا ينخدع بها ذوو العقول الذين يدركون أن الكرامة الإنسانية قيمة، وأن الإنسان مهما كان تافهاً لا يسهل عليه أن ينتزع نفسه من ماضيه انتزاعاً، وأن يجرد نفسه من كيانه تجريداً. إن بيتان وفيجان رأيا أن إنقاذ فرنسا وإقالتها من عثرتها سيتحققان عن طريق ما ينتهجان وليس يمنع هذا عمل عامل لإنقاذ فرنسا على طريقته. فبيتان وفيجان يعملان، وديجول يعمل، وكل هذا في سبيل فرنسا.
إن فرنسا قد أصابت وأخطأت، شأن كل عمل إنساني، فليس أقل من أن نلومها على الخطأ ونذكر لها بالشكر والرثاء فضلها ونكبتها، ونحن إذ نفعل هذا نرسخ تقاليدنا، ونتخلق بأخلاقنا ونصطنع مثلنا، ولا نتخلى عن ميراثنا الروحي والحضاري، فضلاً عن أننا نحاول به تهذيب تلك الغرائز الأولية التي تدفع بالإنسان عملياً إلى الانتقام، فهي ليست بحاجة إلى إذكاء ولا تأريث. هذه الدعوة - كما ترى - ليست سهلة، لأنها محاولة للحد من اندفاعات الفطرة الحيوانية، وهذا الحد يغضب الجماهير ويضيق صدورها ويرغمها على السخط. أما مسايرة هذه الغرائز فيها ومجاراة التيار، فمحاولة هينة لاستغلال براءة الجمهور والضحك من أذقانه. وقد يقوى عليها الساسة الذين يحاولون الفائدة العاجلة ولكن لا يقوى عليها أصحاب الخلق الراسخ والإيمان بالحق وهداة الأمم إلى الخير والمثل المحققة للقوة
أما رثاؤك لمثقفينا الذين لم تقدم إليهم أوربا من العلم إلا ما هو بمثابة السروج واللجم فإني أمر به مرور الضاحك ملء شدقيه وآخذه على أنه جهل بأمر جدير بأن يصحح لمدعي علمه. فنحن يا عبد المنعم لم نذهب إلى هناك فتقدم إلينا أنواع من العلم وتمنع عنا أخرى، وإنما الأمر كان كما قلت لك مورداً مباحاً تختار فيه ما تشاء، فتذهب من الأساتذة إلى من تشاء، وتجتنب منهم من تشاء، تتلقى العلم في مدرستك إلى جانب الفرنسي والبولوني والألماني لا يصدك صاد، ولا يمنعك قيد من القيود. ولذلك عدنا لم نسرج ولم نلجم وإن كنا نوشك أن نحس أن هذه السروج واللجم إنما تلزمنا إياها أمتنا العزيزة، بل الصفوة من أبناء هذه الأمة