إن ذيوع عقيدة تأليه الملك أو حلول روح القدس في جسده الذي حدثناك عنه في الكلمة السابقة قد خلق أمام العقل المصري مشكلة معقدة عويصة يمكن أن تعتبر اللبنة الأولى من بناء الفلسفة المصرية، وأن تعد محاولة حلها أقدم المحاولات الفلسفية التي عرفها تاريخ العقل البشري. لأن عهدها يصعد في سلم الماضي أكثر من ستة آلاف سنة، وأين من هذه الفلسفات الأخرى التي لا يتجاوز أقدمها بضعة عشر قرنا قبل المسيح؟ تلك المشكلة التي نشأت عند المصريين من تأليه الملك هي:(إننا نشاهد أن الملك يموت كما تموت عامة الناس فكيف يموت الإله الذي أولى صفاته الخلود؟!).
لم تكد هذه المشكلة تأخذ مكانها في الحياة الفكرية المصرية حتى وجد المتفلسفون الأولون لها حلا وهو أن فرعون لا يموت كما يموت الناس، وإنما حين يعجز جسمه المادي عن النشاط العملي يخرج منه السر الإلهي أو الروح القدس، ليحل في جسم ابنه الشاب الممتلئ قوة ونشاطاً. وإذاً فروح (هوروس) هي التي تحكم في كل هذه الأجساد المختلفة المسماة بالفراعنة والتي أطلق على كل جسد منها اسم خاص في الظاهر فحسب، ولكن هذا الجواب لا يشفي غليل المتفلسفين الباحثين عن خفايا الكون وأسرار الوجود، لأنهم لا يكادون يتلقون هذا الجواب حتى يصطدموا بالتقاليد الدينية التي تصرح بأن فرعون وهو في قبره يعين ابنه على الحكم وينصحه في المواقف الحرجة. ومن هذا تنشأ مشكلة فلسفية أخرى وهي (كيف تقولون إن روح (هوروس) تغادر جسم فرعون المائت بعد عجزه عن النشاط إلى جسم ابنه الشاب النشيط ثم تعودون فتقولون: إن فرعون بعد رحيله إلى العالم الآخر يظل متصلاً بابنه يعاونه وينصحه؟ فالتصريح الأول يفيد أنه ليس هناك إلا شخصية روحية