واحدة تغادر الجسم الضعيف العاجز إلى الجسم القوي النشيط، والتصريح الثاني يفهم منه أن فرعون بعد موته تبقى له شخصية روحية مستقلة تنصح الملك الجديد وتعاونه. ولا ريب أن هذا تناقض ظاهر يدعو العقول الفلسفية إلى البحث والتنقيب، وهذا هو الذي كان بالفعل، إذ بدأت الروح الفلسفية تسري بين البيئات المصرية المفكرة منذ ذلك العهد المتغلغل في غيابات الماضي فاهتدت إلى حل خيل إليها أنه مقبول من الوجهة العقلية، وهو أن (هوروس) له عدة شخصيات إحداها الشخصية الدنيا التي تتقمص جسد فرعون؛ وثانيتها الشخصية العليا الحاكمة في عالم الآخرة؛ وثالثتها الشخصية الوسطى وهي التي تقوم بنصيحة الشخصية الدنيا في جسدها الجديد، وبهذا تنحل المشكلة ويزول التناقض.
لم يكن المصريون كغيرهم من الأمم القديمة يعتقدون أن الجسم الفرعوني بعد مغادرة الروح إياه يصبح جيفة كأجسام بقية البشر والحيوانات، وإنما كانوا يرون أن حلول روح القدس فيها تكسبها شرفا خالدا وبركة أبدية. ولهذا فبقدر ما يبقى جسم الملك محفوظاً في قبره تنتشر السعادة ويعم الخير في مصر، وهذا هو الإدراك الأول الذي كان يعاصر مبدأ الملكة القديمة، أما بعد هذا العهد بقليل فقد أنتقل تقديس الروح من دائرة الملوك الضيقة إلى جميع الأرواح البشرية وأخذ المفكرون يترقون في الروحية حتى بلغوا فيها الأوج الذي سنشير إليه فيما بعد.
وقد كانت الروح تعنى بأن يترك في الجسم فرجة، لتستطيع العودة إليه منها متى شاءت الرجوع من عالم (أوزوريس) إلى عالم الدنيا، ولكن هذه العودة لم تكن محبوبة عند الروح إلا إبان صلاحية الجسم لها، فإذا يبست (المومياء) وتقلص جلدها وانكمشت أعصابها وفقدت هذه الصلاحية تأخرت الروح عن المجيء إلى الجسم، وهذه خسارة كبرى كانت أحد الدوافع التي حملت المصريين على الدقة في صنع التماثيل بعد التحنيط.
وكان عالم (أوزيريس) في أول عهد المصريين بهذه العقيدة عالماً قاسياً محفوفاً بالأشواك والمخاطر حتى على فرعون نفسه، إذ كانت روحه لا تمر إلى مملكة (أوزيريس) إلا بعد أن تجتاز عدة عقبات ومصاعب تنشأ من أسئلة دقيقة ومحاسبات عسيرة يوجهها الحارس المكلف بمحاسبة المارة، وكانت هذه المملكة في عقيدة المصريين تحت الأرض وكان يجب أن يمر إليها الفراعنة، ومن في حكمهم، ليستمتعوا بعد اجتياز عقباتها بالنعيم المقيم في عالم