وقف هذا العظيم وقفة ناطقة بعظمته أمام دكان حلاق، ثم جاز بابه متهادياً منتفخاً كما يجوز باب داره التي لا تحوي إلا ما هو مالكه؛ وكان الحلاق جالساً كالنائم، لا يصل بصره وذهنه إلى أبعد من مجلسه، فهب واقفاً تدق على قلبه هيبة الداخل عليه.
وجلس الرجل على الكرسي جلسة أمير متواضع، ووقف الحلاق من خلفه كما يقف المتهم في ساحة العدل. . . وكان دهشاً يزدهيه ويربكه أنه على فقره وخموله يحظى بشرف التصرف في نبات ذلك الرأس العظيم وتزيينه وريه بأغلى ما عنده من العطور؛ ولكنه استجمع نفسه وذهب يجلب من نواحي دكانه أجود مقصاته وأحد أمواسه، وبدأ يعمل بفكره وعينيه ويديه، حتى يخرج من مهارته تحفة فنية رائعة ترضي عظمة (الزبون) وتفتح للدكان باباً في الشهرة ومن ورائه باباً في السعادة. . .
وتواردت على رأس الحلاق أحلام خلابة تنبئه بحياة هنيئة ناعمة، وصيت ذائع منتشر. . . فتصور أن بعد ذلك الرأس الرفيع رؤوساً رفيعة أخرى ستظهر عليها بدائع يديه. . . وأيقن أن قد حان الوقت لينال حقه المهضوم وينصف فنه المظلوم. . .
وتصور أنه إذ يتعب في تزيين ذلك الشعر وتجميله إنما يتعب في تزيين دنياه الجميلة التي الجميلة التي في خياله. . . ثم اعتقد أنه ولا شك بالغ بعد ذلك غاية الأمل ما دام قد حلق لهذا العظيم، وما دام العظيم يرضى عنه، فجعل يبذل ما في وسعه من حذق لتجيء الصنعة فاتنة لا عيب فيها فتجيء الدنيا كاملة لا نقص فيها.
وراح الزبون الكريم المتواضع يطلب موسى غير الموسى لتكون أمضى، ويطلب فرشاة غير الفرشاة لتكون أطهر؛ ثم أخذ ينبسط مع الحلاق ويؤنسه من نفسه العظيمة ويحاضره في تواضع العظمة وعظمائها. ويقص عليه نوادر تبين له أن الكبير من لا يتكبر، وأن الحلال حلو ولو مرَّ، والحرام مرٌّ ولو حلا، وأن الدنيا والآخرة للأمين، والدنيا والآخرة