على الخائن؛ ثم كان يفصل قصصه بأحكم الحكم وأصدق الأمثال. والحلاق غارق بسمعه في لذة الحديث، مستغرق بعينه في لذة الصنعة، سابح بفكره في لذة الأحلام. . .
قال الزبون فيما قال: كل شيء يقع في هذه الحياة بقضاء، فما من شر يصيب وما من خير يصاب إلا وهو مكتوب من قبل في لوح القدر.
قال الحلاق: صدقت والله يا أفندينا. . . فقد يكون الإنسان غافلاً فتنساق إليه الأسباب من تلقاء نفسها، وقد يكون خاملاً فينصب عليه الرزق من حيث لا يدري. والمثل فيّ أنا. . . أنا جالس يا أفندينا في غفلتي وخمول شأني ضعة مكاني - فإذا بك تشرفني بالدخول علي؛ فهل هذه إلا مفاجأة؟ (وفي السماء رزقكم وما توعدون).
قال الزبون: وفي حقيقة الأمر أنها لم تكن مني عن تدبير ولا نيّة، ولم تكن في حسباني ولا ألقيت لها بالاً، ولا كنت في حاجة ماسة للحلاقة اليوم. . . فما هي إلا خطرة مالت بي إليك ولا أدري سببها، وكأنما كان للإلهام فيها عمل.
فأحس الحلاق أن في حديث زبونه ما في حديث نفسه، فانتشى ظاهره بما في باطنه وقال: إي والله إنه لإلهام وإنه لحظ سعيد وإنه لشرف عظيم؛. . وأرجو ببركة تواضعك الميمون أن أصبح في القريب حلاق إخوانك العظماء من هامات الناس وكبرائهم. وبذلك أكون صنيعة فضلك وخادم إحسانك.
قال الزبون: لا ريب في أنك ستكون حلاقي الخاص وحلاق إخواني الدائم إذا ما أعجبتُ أنا بحلاقتك وصنعتك.
وانتهى الحلاق من جهاده في سبيل المجد، ووقف مضموم اليدين ينتظر الرضى والثناء! وأعجب العظيم بحلاقته أيما إعجاب ووقف يعرض نفسه على هذه المرآة وتلك المرآة وهو ينثر كلمات الإعجاب في كرم وسخاء. والحلاق لا يدري أهو كالناس على الأرض أم طائر مع ملائكة الحظ والسعادة. . .
وأخرج الزبون من جيبه دخينة ضخمة فخمة كأنها من نوع ممتاز لخلق ممتاز - وأشعلها ثم قال: ألا تدري أن هذه الدخينة من صنع بلادنا؟.
قال الحلاق: يا عجيباً!! وهل تقدمت بلادنا إلى هذا الحد؟
قال الزبون: أنت تعجب فكيف عجبك لو علمت أن ثمن العلبة من هذه عشرون قرشاً؟