عند هبوط المساء غادر المعلم (بيومي) الفوال نقطة بوليس الحسينية يحمل (إنذار التشرد)، يكاد يتصدع صدره من الغضب والغيظ. وكان يرغي ويزبد ويتمتم ويدمدم بأصوات كالخوار، خشنة مبهمة، ما زالت تعلو وتميز كلما باعدت الخطأ بينه وبين نقطة البوليس، حتى صارت في ميدان فاروق لعناً وسباباً وقذفاً صريحاً مخيفاً عنيفاً. وجعل يهز قبضة يده الغليظة في الهواء مهدداً متوعداً، ويدير في الفضاء عينين يتطاير منهما الشرر صيرهما الغضب كجمرتين ملتهبتين. فوقع بصره على (تاكسي) واقف بالميدان، فقصد إليه، ورآه السائق - وكان يعرفه - ففتح له الباب، فأندفع إلى الداخل وارتمى إلى جانبه. وأحس السائق بالثورة المضطرمة في صدر صاحبه، فسأله عما يقلقه، ووجد المعلم في السؤال متنفس عن صدره، فرما إليه بالإنذار وهو يصيح غاضباً:(أنظر كيف تعاملني الحكومة السنية!)، وشبك يديه على صدره وقال بلهجة تدل على السخرية والحنق:(ألا ترى أنه يحتم عليَّ أن أجد عملاً في ظرف عشرين يوماً، أو يزج بي في السجن مره أخرى؟ ما شاء الله!). وأشتد اكفهرار وجهه، وأرسل من تحت حاجبيه الكثيفين نظره شريرة، وكان صاحبه ساهماً متفكراً يردد ناظريه بين وجه المعلم المكفهر والإنذار المبسوط بين يديه
وكانت هيئة المعلم بيومي من الهيئات التي لا يمكن أن تقتحمها العين، أو تمر بها دون التفات إليها، لأن صورته كانت حافلة بآي القوة والجسارة. نعم كان مظهره الرث وملابسه البالية القذرة تنطق بما هو عليه من فقر وبؤس، ولكن هيكله الصلب وصدره العريض وعضلاته المفتولة دلت على القوة والبأس، ونظرة عينيه وإيماءاته توحي بالكبرياء والعنف، وتلك الندوب تكتنف وجهه وجبينه، وآثار من طعن سكين في صفحة عنقه تثبت أنه خاض معارك عنيفة شديدة الهول، ولذلك أحاط به في غضبه صمت رهيب ألزم ألسنه الأقربين من سائقي (التاكسي) الجمود الثقيل. وقد التفت إلى صاحبه وقال في غيظ وحنق:(أنا. . . أنا بيومي الفوال. تتنكر لي الدنيا إلى هذا الحد؟!) وكبر عليه الأمر فجعل يضرب كفا بكف ولسانه لا يكف عن القذف والتهديد، وأكثر من القذف والتهديد. وقليلاً ما كان