للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يحرك لسانه ساعة الغضب فيما مضي من زمانه. فكان إذا غضب انطوى على الغضب حتى ينزل عقابه الصارم بعدوه، ولكن لم يبق له من ماضيه ذاك إلا ذكريات تطوف بين الحين والحين برأسه المثقل. فتنشر في ظلماته ضياء منيراً مقتبساً من عز الماضي ومجده وسلطاته

كانت نشأة المعلم بيومي في العطوف. وقد شهد صباه الأول على جسارته الطبيعية، فكان من خيرة صبيان الأعور (فتوة) العطوف الذي أرهب السكان وأعجز رجال الأمن. يجلس بين يديه يستمع إلى قصص مغامراته ويشهد مشاجراته ويخرج في مؤخرة عصابته إذا نفرت لقتال عصابات الدراسة أو الحسينية عند سفح المقطم، يحمل في حجره (الزلط) (وقطع الزجاج) يمد بها المتعاركين من قومه ويلاحظ فنون قتالهم عن كثب ويمتلئ حماسة للقتال وأعمال الجرأة فما شارف الثامنة عشرة حتى أشتد ساعده وانفتلت عضلاته، ومهر مهارة عجيبة في الضرب (بالروسية) والعصا والسكين والكرسي؛ واشترك في معارك فردية وجماعية فأبلى فيها أحسن البلاء. وذاع أمره كمتعارك شديد المراس، يقدم على مقاتلة عشرات الرجال بقلب لا يهاب الموت، ويدمر مقهى كاملاً إذا حدثت النادل نفسه بمطالبته بثمن مشروب، وأكبر الأعور فيه هذه الصفات فاصطفاه وآخاه وجعله ساعده الأيمن، وقاسمه الغنائم والأسلاب. ومات الأعور فخلقه على أريكة (الفتونة) دون شريك. وأبى طموحه عليه الهدوء والراحة؛ فتحدى فتوة الحسينية وظهر عليه، وقاتل فتوة الدراسة فهزمه، وخرج بمجموعة إلى الوايلية فأذل كبيرها ومزق جموعه شر ممزق، ودوى أسمه في تلك الأحياء دوى نذير الغارات، واستكانت له نفوس الفتوات، وأفاد من سلطانه فائدة رمقتها عيون الجسد جيلاً طويلاً. فجعل مركزه قهوة غزال بالخرنفش حيث يجتمع بأنصاره وصبيانه. وفرض الآتاوة على كبار الأغنياء والتجار والقهوجية وشركة سوارس يؤدونها إليه صاغرين، ومن يتردد عن دفع ما يطلب منه عرض نفسه وما يملك للهلاك المبين. هذا غير ما كان يؤجر له من أعمال الانتقام والتهديد وحماية بعض النسوة من أهل الهوى، وتنافس كثيرون في التودد إليه بإهدائه الهدايا الثمينة، فكان يتقبلها تقبل الزاهد فيها وهو من غير الشاكرين وعاش المعلم بيومي في ظل سلطانه عيشة راضية في بلهنية ونعيم. يلبس الجلباب الحرير والعباءة من وبر الجمل، ويتلفع بالشال الكشمير الفاخر

<<  <  ج:
ص:  >  >>