(ومن المعونة على تسلية الهموم وسكون النفس لقاء الأخ أخاه، وإفضاء كل واحد منهما إلى صاحبه يبثه، وإذا فرق بين الأليف وأليفه فقد سلب قراره وحرم سروره، وعشي بصره)
(ابن المقفع)
بيني وبين ابن المقفع صداقة أعتز بها كل الاعتزاز، فقد كان أول كاتب تثقفت بأدبه في العربية، ولا أزل أذكر قصصه الشائقة الممتعة التي قرأتها في كتابه الخالد (كليلة ودمنة) وكنت حينئذ لا أتجاوز العاشرة، ولكنه كان يجذبني - بوضوحه المشرق - إلى متابعته دون سآمة أو ملل، وكنت أستوعب روائعه في لذة وشغف، فإذا ما خلوت إلى الناس كانت محور السمر، وأداة الحديث، ومهما يكن من شيء فقد جعلتني أعتبر ابن المقفع - في سن الطفولة - نادرة الكتاب، وأستاذ البلغاء. وما زلت أنظر إلى الرجل هذه النظرة العالية حتى اليوم، فلا غرو إذا تحدثت عنه حديث الدارس المستوعب، فغير كثير عليه أن تسطر في أدبه الصحائف، وتهتم بآثاره الأقلام!!
وقد لاحظت إن أديبنا الكبير قد اكثر من الحديث عن الصداقة إكثاراً يدعو إلى الدهشة والعجب، فما يكاد فصل واحد من كتابه يخلو من التصريح أو التلميح بما يشتجر في نفسه من العواطف الأنيسة الرفيعة، مما دفعتني إلى التنقيب في حياة الكاتب، ودراسة تاريخه دراسة فاحصة.
وقد اتضح لي أن عبد الله كان صديقاً وفياً لصفوة مختارة من الأدباء والشعراء، فكان يقضي الأمسيات الضاحكة في سمر ممتع لذيذ، فإذا عاقته ظروفه - يوماً ما - من منتدى أصفيائه حن إليهم حنيناً ينبئ عن وفائه وولائه، وقام يراعه البليغ بالتعبير عن عواطفه النبيلة فنفث السحر، وأدار السلاف!. . .
وقد تحدث كثير من الكتاب عن الصداقة والأصدقاء، فما وجدت لأحاديثهم جاذبية تدفعني إلى التعليق عليها، وما شعرت بارتياح تام إلى تحليلها وتشريحها، لأن جل هؤلاء في الواقع يقولون مالا يفعلون، فهم يسهبون في الحديث عن الوفاء والتسامح والإيثار، فإذا