للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

رجع الباحث إلى تواريخهم المظلمة، وجد ما تنطق بالقدر والحقد والكيد.

أما أديبنا الحكيم فذو تاريخ نبيل مجيد، تقرأه فتخفض رأسك إجلالاً لصاحبه وتتساءل - كما أتسائل الآن - عن هذا الذي ملك عواطفه، وحكم مشاعره، فلم يخضع يوماً إلى منطق الحقد، ولم تتخطفه نوازع الهوى، بل سار في مهبع لا حب مستقيم تحدوه الكرامة والعزة ويرفرف عليه ظل وارف من النبل والوفاء.

وإذا كانت حياة الإنسان أعز شيء لديه، ثم يليها في المرتبة ما يملك من مال وعتاد، فإن ابن المقفع قد نظر إلى حياته وماله نظرة هينة رخيصة، فذكرا اكثر من مرة أن التضحية بالنفس والمال أقل ما يجد على الإنسان نحو صديقه الأمين، ونحن نسمع هذا الكلام من كل كاتب، ولكن عبد الله لا يسطر الرأي إلا بعد أن يعتقده ويقوم بتنفيذه دون تردد وإحجام، فقد شاء القدر العنيد أن يمتحنه أمام الناس، ليظهر في ثوبه الشفاف، ولقد انتهى الامتحان الرهيب بنجاح ابن المقفع وانتصاره في ميدان الكرامة أبهر الانتصار.

كان عبد الله صديقاً حميماً لعبد الحميد الكاتب، فقد تراسلا حقبة من الدهر، وأعجب كلا الرجلين بصاحبه إعجاباً زائداً، وحين عصفت رياح الزمن بالدولة الأموية، وهب العباسيون يتعقبون أولياءها في كل مكان.

فر عبد الحميد إلى صديقه واختبأ في بيته مدة كان فيها موضع التكريم والإكبار، وشاء طالعه الأشأم أن يقف أرباب السوء على مكانه، فأبلغوا الخبر في أسرع من البرق إلى الخليفة السفاح وفاجأه الطلب الصاعق في منزل ابن المقفع فقال رسول الخليفة للصديقين: أيكما عبد الحميد؟ فقال كل واحد منهما (أنا)، خوفاً على صاحبه، وأوشك الجند أن يقتلوا ابن المقفع لولا أن صاح بهم عبد الحميد، قائلاً: ترفقوا بنا، فلكل منا علامات يعرف بها أتم تعريف، فوكلوا بنا بعضكم، وليمض البعض الآخر إلى من وجهكم فيذكر له تلك العلامات، ففعلوا كما أشار، وأتضح لهم عبد الحميد فقتلوه!!

فهذه الحادثة وحدها كافية لإثبات رجولة ابن المقفع، وهي تدل دلالة ناطقة، على أن الرجل يتقيد بما يوجبه على غيره من حقوق الصداقة والوفاء. وناهيك بمن يبذل نفسه تضحية رخيصة في سبيل صديقه، وكما قيل: الجود بالنفس أقصى غاية الجود!!

وبديهي أن الذي يقدم نفسه ضحية لصاحبه، لا يتردد لحظة في إنفاق ماله عليه، ولقد كان

<<  <  ج:
ص:  >  >>