عبد الله في سعة من الخير، ورفاهية من العيش، وكم بذل من الثروات الطائلة في سبيل أصدقائه وعارفيه، وأخباره في هذا الباب لا تندرج تحت حصر، ويكفي أن تذكر على سبيل المثال موقفه مع صديقه (عمارة بن حمزة) وهو كعبد الله كاتب أديب، وقد كان عاملاً لأبي جعفر المنصور على الكوفة، وكان ابن المقفع إذ ذاك بها.
فبينما هو ذات يوم عنده ورد على عمارة كتاب وكيله بالبصرة، يعلمه أن ضيعة جوار ضيعته تباع وأن ضيعته لا تصلح إن ملكها غيره، وثمنها ثلاثون ألف درهم، فقرأ عمارة الكتاب وقال: ما أعجب هذا!! وكيلنا يشير علينا بالابتياع، ونحن في جدب وإملاق، ثم كتب يأمره ببيع ضيعته والتوجه حثيثاً إليه، وسمع عبد الله الحديث فقام إلى بيته وكتب إلى الوكيل على لسان عمارة، (أما بعد فقد كنت أمرتك ببيع الضيعة ثم حضر لي مال فلا تبعها واشتر الضيعة الأخرى وهاك ثمنها) ففعل الوكيل ما أراد، وجاء الخبر إلى عمارة، فأخذه العجب من ذوق ابن المقفع كل مأخذ، ثم قال له مداعباً: بعثت بثلاثين ألف درهم إلى الوكيل، وكنا في حاجة إليها؟ فقال له من فوره: وإن عندنا لفضلاً، وبعث إليه بثلاثين ألفاً أخرى)؛ فهل ترى بعد ذلك صديقاً كعبد الله يدفع عن أصفيائه الغوائل بنفسه وماله؟ وهل يليق بنا أن نغفل حديثه عن الصداقة بعد أن ضحى في سبيلها بأكثر من الواجب وجعل نفسه المثل الأعلى للصديق النبيل!
ومهما اختلفت الآراء في الصديق، فقد كان الأديب الحكيم يرفعه إلى منزلة عالية ويضعه في مرتبة فوق مرتبة الشقيق، وكثيراً ما عقد بينهما موازنة طريفة تنتهي بتفضيل الصديق عمن عداه. ولقد قال له بعض الناس أنا بالصديق آنس مني بالأخ، فعرف السرور في وجهه، وانبرى يدلل على صحة ما سمع، فقال لصاحبه: صدقت، فالصديق نسيب الروح، والشقيق نسيب الجسم!! وكثير من الحكماء يؤيدون الكاتب في دعواه بل ربما يسرفون إسرافاً يميل بهم إلى التحامل على القرابة بدون موجب. ومنهم من يقتصد في حكمه اقتصاداً لا يخرج به عن الإنصاف، فقد قيل لبزرجمهر، من أحب إليك؟ أخوك أم صديقك، فقال ما أحب أخي إلا إذا كان صديقي. وقال أكثم بن صيفي: القرابة تحتاج إلى مودة، والمودة لا تحتاج إلى قرابة.
وينبغي ألا نغفل عن حقيقة ملموسة، وهي إن ابن المقفع ومن سار معه في طريقه، لم