يولد الإنسان خطيباًن كما يولد شاعراً أو فناناً، أو عسكرياً أو سياسياً؛ وتلك الملكة، وهي وليدة الفطرة، لا تنمو وتؤتي ثمارها إلا بالمران والصقل؛ فالخطابة إذن موهبة وفن معاً، فلا يسيغ العقل أن يكون المرء عاطلاً من الموهبة الخطابية ثم يصبح بين عشية وضحاها من الخطباء الخالدين في التاريخ، كما لا يهضم الفكر أن يكون الإنسان خطيباً موهوباً ثم يصبح بين بياض يوم وسواد ليلة من الخطباء المعدودين دون درس وتحصيل ومران. ولقد يحلو لبعض المؤرخين أن يرسم صورة لخطيب مفوه كان في حداثته خلواً من ملكة الخطابة، بل يصورونه في طفولته مثال الفهاهة والعي، ثم يصيرونه في رجولته الخطيب المصقع، والمفوه المنطيق! فقد زعموا أن (ديموستين) خطيب اليونان العظيم كان في حداثته به عي وفهاهة، فطمح إلى الخطابة وصحت عزيمته على مغالبة ذلك النقص والتغلب عليه، فكان في كل يوم يذهب إلى البحر فيملأ فمه بالحصى، ثم يقف أمام الموج المضطرب المصطخب، فيصيح الصيحات العالة، وما لبث أن تغلب على الفهاهة والعي وبات في طليعة الخطباء القادرين! تلك صورة أدنى إلى خيال الشعراء منها إلى تحقيق الثقات من المؤرخين، بل لعلها أسطورة من الأساطير التي تحيط بحياة عظماء الرجال عادة، أو التاج الذي يضعونه على رأس البطل، أو إكليل الغار الذي يضعونه على هامته، أو هالة المجد التي يحيطون بها تاريخه. فقد يكون صحيحاً أن الخطيب اليوناني كان يقف حيال الموج المصطخب فيرسل الصيحة عالية؛ على أن العقل لا يسلم بأنه كان عييَّاً، وكل ما يستطاع التسليم به أنه يروض نفسه على الكلام بنجوة من الناس.
وقد تبقى ملكة الخطابة دفينة إذا لم تتح الظروف لبعثها؛ وقد يظل الخطيب الموهوب خاملاً مغموراً إذا لم يوجد أمامه الميدان الذي تتجلى فيه مواهبه، ولولا الثورة الفرنسية ورغبة الفرنسيين في ثل عرش الاستعباد، وكسر قيود الاستبداد، وتقويض دعائم الماضي وتشييد صروح المستقبل وهدم النظم العتيقة البالية، وبناء النظم الدستورية الحديثة، وغرس مبادئ الحرية والمساواة والإخاء - لولا ذلك الغليان الفكري لما ارتفع (ميرابو) من غمرة الخمول إلى ذروة الشهرة والمجد. وما كان الزعيم الشاب مصطفى كامل لتتجلى مواهبه الخطابية،