فيلقي بالإسكندرية في عام ١٩٠٧ خطابه الذي يعد برنامجاً وطنياً، لولا رغبة المصريين في الجلاء وتشييد صروح الاستقلال؛ بل لولا فورة عام ١٩١٩ ورغبة الشعب المصري في تقرير مصيره بنفسه، ما بات سعد زغلول الخطيب الخالد في التاريخ.
ولا مندوحة لمن ينشد الكلام أن يدرع بالعلم، فالخطيب ينبغي له أن يعلم ما يقول، وأن يعلم جمهور سامعيه منه جديداً، وإلا عد من تجار الكلام لا من الخطباء، وكان قوله ثرثرة لا طائل تحتها ولا غناء فيها، لا خطابة تحق حقد وتبطل باطلاً، وتنصر دعوة وتخذل أخرى، وتبث مبدأ قويماً وتكافح غيره فاسداً.
إن الخطيب الذي يقرأ شعر الشعراء ونثر الناثرين وخطب الخطباء، ويكون على اتصال روحي بالحركة العلمية والأدبية، لهو الخطيب الذي يعرف كيف يضفي على فكرته الثوب الذي يلائمها ويأتي بالصور الأخاذة والعبارات الخلابة والآراء الناضجة ويملك شعور سامعيه.
والخطيب الذي لا يعنى دائماً بتجديد ثروته العلمية واللفظية خليق ألا يسمع الناس منه إلا الرأي المبتذل، والفكرة الغثة التافهة، والعبارات الممجوجة المملولة.
على أن الإسراف في المطالعة يوشك أن يصيب المرء بنوع من الشلل العقلي، وإن شئت فإنه يصيب الذهنية الخصبة بضرب من الأجداب والأمحال، فمن يفكر برأس غيره دائماً، وينظر بغير عينه، ينتهي أن تشل حركة تفكيره فلا يفكر ولا يرى. ومن ير العالم من ثنايا الكتب يمش رجلاً خيالياً لا يدرك من شؤون العالم شيئاً. ومن لا يقتصد في المطالعة خليق أن يداخله اليأس فيهتف: ليس في الإمكان أبدع مما كان! وينادي: لا جديد تحت الشمس، ويصيح صيحة اليأس: ما ترك الأوائل للأواخر شيئاً!
والحق أن الأوائل خاضوا في كل شيء، على أنهم تركوا للأواخر كثيراً، ومن يذهب غير هذا المذهب فإنما ينكر حركة التطور العقلي والفكري في العالم.
ومن الناس من يلتهم الكتب التهاماً دون تفهمها والتغلغل في روحها، وخير من هذا للخطيب الطامح أن يطيل النظر في خطب الخطباء فيتذوق الأثواب التي يسبغونها على آرائهم، بغير أن يتعسف في محاكاة طرائقهم فلكل خطيب شخصيته وأسلوبه في عرض أفكاره.
ويجمل بمن يأنس في نفسه الاستعداد الخطابي أن يستمع إلى كبار الخطباء ليشهد وسائلهم