ومن نافلة القول أن يلفت الخطيب إلى وجوب تفهم نفسية الجماعة التي يوجه إليها الخطاب ليتولى إقناعها، فالخطب البرلمانية تفترق عن المرافعة في مجلس القضاء، والكلام في اجتماع انتخابي يختلف عن التحدث إلى مجمع علمي، على أن الخطيب الموهوب مطبوع على فهم روح الجماعة التي يخاطبها.
وفي كل حال ينبغي أن يتوفر في كل خطاب عناصر وضوح الفكرة وترتيب المنطق وروعة الأسلوب، ولكن التأنق في العبارة لا ضرورة له على الإطلاق، بل قد يأتي التزويق والتنميق هادماً لدعوى الارتجال الخطابي، والجمهور لا يتعنت فيطالب الخطيب بما يطالب به الكاتب، والأسلوب الذي يخلو من الكلفة والصنعة يكون أفعل في النفوس من الأسلوب الذي تغلب عليه البهرجة والتأنق. والخطيب الذي يتراءى أمام السامعين وقد ضاق صدراً بالعبارة التي يبرز فيها فكرته ثم يرفق إليها يكون شأنه في التأثير شأن من يلقي قنبلة، أو من يشهد بركاناً ينفجر. وإني لأذكر فيما أذكر قول أحد كتاب الفرنسيين إنه يؤثر بربرية (جمبتا) في الخطابة على أناقة (جوريس) فيها؛ فالغابة الطبيعية أحب إلى القلب، وأشهى إلى النفس، وأمتع للنظر من الغابة التي نسقتها يد الإنسان.
ولقد ألِفَ الكتاب تقسيم الخطباء إلى: قارئ، وحافظ، ومرتجل؛ فأما القارئ فهو الذي يتلو من ورقة يحملها بيده؛ وأما الحافظ فهو الذي يلقي خطابه عن ظهر غيب كما يلقي الطلبة محفوظاتهم في المدارس؛ وأما المرتجل فهو الذي يلقي من وجي الخاطر وحاضر البديهة.
ولقد دلت التجارب على أن السامعين يتبرمون بالخطيب القارئ، ويشيع السأم في نفوسهم، وبخاصة حين يلمحون أكداس الورق أمامه، وإذا لم يُجد الإلقاء جاءت عباراته بمثابة قطع الثلج تتساقط فوق رؤوسهم، وهم يؤثرون أن يتلوها حين يخلون إلى ضمائرهم ليتذوقوا جمال الأسلوب ونضوج الفكرة فيها. والخطب المكتوبة تدعو للإطالة والإسهاب فتبعث على الملل، ولذلك جرت التقاليد البرلمانية على تحريمها. ثم إن ما يغتفر للخطيب المرتجل الذي يلقي من حاضر البديهة لا يغتفر للخطيب القارئ الذي أمعن في التحضير وأطال في الكتابة. فالأول، خلال فورة الخطابة وغليانها، إذا جرح أحداً، أو فاه بعبارة نابية، افترض فيه حين النية، وسقط عنه ركن العمد. فأما الثاني وقد قال عبارته في دم بارد، وضمير