جامد، فإنه يتحمل الظروف المشددة المترتبة على العمد وسبق الإصرار.
على أنه لا مندوحة عن تلاوة الخطب الرسمية؛ فخطورة الموقف، ودقة المسئولية، تحتمان وزن العبارات، ولا تسمحان بمغامرات الارتجال الخطابي. وهنا تحضرني رواية (فون بيلوف) مستشار الإمبراطورية الألمانية قبل الحرب العالمية إذ قال في مذكراته أنه كان يعد لغليوم الثاني إمبراطور ألمانيا السابق الخطب التي يزمع إلقاءها في المواقف الرسمية الخطيرة، مخافة أن يتورط، وقت الاندفاع الخطابي، في عبارات تمس مسئولية الدولة الألمانية. على أن الإمبراطور كان كلفاً بالخطابة، وكان يزعم لنفسه قدرة على الارتجال لا تجارى ولا تبارى. وتحدد يوم ليلتقي بقيصر الروسيا على ظهر بارجة حربية، وأعدَّ له (فون بيلوف) الخطاب الذي سيلقيه، فما أن نهض غليوم للخطابة حتى ضرب صفحاً عن الخطبة الرسمية، وفاه بعبارات أقامت الدوائر السياسية البريطانية وأقعدتها؛ ففطنت الدبلوماسية الألمانية للمر، ونشطت لإنقاذ الموفق، وإصلاح ما أفسده زهو الطاووس.
والخطيب القادر على الارتجال لا يلبث أن يشعر بثقل قيود التلاوة حتى في أدق المواطن الرسمية وأخطرها. وسعد زغلول، وهو المثل الأعلى للخطيب المرتجل، كان يضيق بالتلاوة صدراً، فيلقي الأوراق من يده ويعمد إلى الارتجال، فيحلق في سماء البلاغة.
ولابد للخطيب الحافظ من ذاكرة جبارة لأنه إذا خانته الذاكرة بات في أدق المواقف وأحرجها؛ فقد يروى أن نائباً من نواب الإمبراطورية الفرنسية ألقى خطاباً شهد الجميع بأنه رائع فما لبث محرر صحيفة (الفيجارو) أن أماط اللثام عن أن الخطاب منتحل. فأقر النائب بمصدر الخطاب، وقال إن له ذاكرة قوية فيحفظ عن ظهر قلب أغلب ما يقرأ. وأنه قرأ ذاك الخطاب فوعته ذاكرته. فلما حمي وطيس الجدل في المجلس ألقاه وهو يؤمن بينه وبين نفسه (أنه له)! ودارت الأيام دورتها وأصبح عضواً بمجلس الشيوخ، فقام للخطابة وظل يهدر ويتدفق حتى اصطدم بكلمة فما يدري ما بعدها؛ ولبث يحاول ثم يحاول فلا يجد ما يقوله كأن ما بذهنه قد تبخر. فأنقذ رئيس المجلس الموقف بأن رفع الجلسة، فلما أعيدت نهض صاحبنا وعالج الكلام فلما بلغ تلك الكلمة ارتج عليه، وما كان يغني عنه أن يبدأ الجملة من أولها إذ كان عندما يبلغ تلك الكلمة يرتج عليه ثانية، فبادر الرئيس إلى إنقاذ الموقف برفع الجلسة نهائياً، وما ارتقى صاحبنا المنبر بعد ذلك أبداً.