والخطيب الحافظ إن لم يكن حسن الإلقاء، لطيف الإيماءة، كان ضعيف التأثير في سامعيه؛ وشعور الجمهور يهديه إلى اكتشاف الخطب المحفوظة عن ظهر قلب. فالألفاظ البراقة، والصور الخلابة، والعبارات المصقولة، والجمل المسجوعة، مضافة إلى الاندفاع الخطابي؛ كل أولئك يمزق القناع عن وجه الخطب المحفوظة ويهدم دعوى الارتجال من أساسها.
استغفر الله أن يفهم من قولي أن الخطيب لا ينبغي له أن يلبس فكرته ثوباً جميلاً، وإنما أريد أن أقول إن الخطيب الجدير بحمل هذا اللقب لا يجمل به أن يكون أسيراً لألفاظ رصها وعبارات رصفها. فليس العيب في العناية بإعداد الخطاب، وإنما العيب أن يكون الخطيب عبداً للاستعارات والمجازات والتشبيهات والكنايات، وعلى الجملة عبداً لكافة المحسنات اللفظية وعبارات البديع والبيان.
كان (جان جوريس) الخطيب الاشتراكي العظيم يعترف صراحة بأنه يعد خطبه ولا يرى في ذلك عيباً على الإطلاق. ففي ٢١ نوفمبر من عام ١٨٩٣ كان يستجوب الوزارة الفرنسية عن سياستها العامة، فلما فرغ من خطابه نهض المسيو شارل ديبوي رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية للرد عليه فقال:(أعتقد أنكم بعد أن سمعتم خطاب مسيو جوريس تجدون بعض العناء في تصديق دعواه بأني لم أدع له الوقت الكافي لإعداد خطابه) فنهض جوريس وجهر بتلك العبارة: (إني لأشعر قلبي الاحترام لمنبر الخطابة ولزملائي فأعد ما ألقيه).
وكان (بربو) المحامي الفرنسي المدره يترافع يوماً فدفعت الصفاقة خصمه لأن يداعبه مداعبة ثقيلة، فقال: إن رائحة الزيت تنبعث من ثنايا مرافعته؛ كناية عن أنه أفنى الليل في إعدادها على ضوء المصباح. فأجاب (بربو): (ليس يضيرني أن يسجل علي أني أعد مرافعاتي بدقة، وإن إجلالي للقضاء يحول بيني وبين التورط في العبارات الجوفاء والصيحات الفارغة التي تجد لها موطناً في ساحة أخرى غير ساحة العدل)، وكان المحامي الخصم عضواً بمجلس النواب فأفحمته عبارة شيخ المحاماة.
ومن الأوهام الشائعة أن الارتجال في الخطابة يعني أن الخطيب ينهض ولم يعد خطبته، بل إن ذهنه خلو من كل ما يتعلق بالحديث الذي سيخوض فيه، ولسنا نتردد في الجهر بأن مثل هذا الخطيب عاجز إلا عن الثرثرة والكلام الأجوف الفارغ، وكل بضاعته ألفاظ طنانة