وعبارات رنانة لشد ما لاكها حتى حفظها عن ظهر غيب، فأصبح يتجر بها في كل موقف خطابي. وصدقوني أن الخطيب لا يستطيع أن يرتجل الكلام عن موضوع إلا إذا درسه دراسة عميقة، ولا يقوى على الارتجال في كل المواقف إلا إذا كانت له ثقافة عالية ومعلومات عامة واطلاع واسع في العلم والفلسفة والأدب والتاريخ؛ وفي كلمة، أن يكون عبارة عن (دائرة معارف). ولابد له من إعداد فكرته، أستغفر الله، بل لابد له من إعداد ألفاظه وعباراته قبل إلقاء خطابه، إنما لا ينبغي له أن يكون أسيراً لألفاظ بعينها أو عبداً لعبارات بذاتها وإلا انحدر إلى طبقة الخطباء الحافظين. وليست تهم طريقة إعداد الخطبة وإنما تهم إجادتها، فمن الخطباء من يفكر وهو يكتب، ومنهم من يفكر وهو يمشي، ومنهم من يفكر وهو يتحدث إلى صحبه، ومنهم من يفكر وهو في مضجعه، ومنهم من يفكر في الفترة بين دعوته للخطابة ووقوفه على المنبر؛ وإنما يلتقي الخطباء المرتجلون عند أمرين: سعة الاطلاع، وهبوط وحي الفكرة وسط حرارة الاندفاع الخطابي.
وما أخالك بعد هذا الشرح الموجز إلا قد فهمت مغزى عبارة (برييه) الخطيب الفرنسي العظيم: (إن سر الخطباء المرتجلين هو أنهم لا يرتجلون على الإطلاق).