من الحقائق الجغرافية والتاريخية ما يلازم حياة الأمم حتى ليغدو من صميم هذه الحياة، بل يغدو أحياناً عاملاً حاسماً في تكوينها وتطورها؛ فعلاقة النيل بحياة مصر مثلا علاقة أزلية خالدة لم يفصمها تعاقب الدهور والعصور؛ وإذا كانت هيرودوت قد ذكر منذ ألفين وثلاثمائة عام أن مصر هبة النيل، فان هذه الحقيقة لا تزال ماثلة إلى اليوم بكل قوتها وروعتها، وقد كانت ماثلة راسخة قبل هيرودوت بآلاف السنين. وقد كان النيل منذ أقدم العصور حياة الأمة المصرية المحتشدة حول ضفافه الخضراء، وسيبقى أبد الدهر مصدراً لهذه الحياة؛ وكان منذ فجر التاريخ عاملاً أساسياً في تكوين هذه الحياة وفي تطور مظاهرها وأساليبها مدى العصور والدهور. كذلك كان موقع مصر الجغرافي وما يزال عاملاً جوهرياً في تطوراتها التاريخية وفي مصايرها السياسية والاجتماعية، فقد كان هذا الركن الذي تشغله مصر صلة الوصل بين قارات العالم القديم، وكان لهذه الحقيقة الجغرافية في تطور تاريخها القديم والحديث أعظم تأثير.
بل إن هذه الحقيقة الراسخة لتغدوا في تاريخ مصر الحديث والمعاصر أشد وضوحاً وتأثيراً؛ ذلك أن القدر شاء أن تحفر مصر قناة السويس وأن تغدوا مرة أخرى طريق الهند والشرق الأقصى. وهل ينسى مؤرخ ما كان لقناة السويس من أثر عظيم في مصاير مصر في العصر الأخير وفي وضعها السياسي الحاضر؟ وهل ينكر إنسان أن القناة ستبقى عصراً هي العامل الفصل في مصير مصر ومستقبلها الدولي؟ ونقول إن مصر قد غدت كرة أخرى طريق الهند والشرق الأقصى، لأن مصر كانت منذ أقدم العصور حلقة من أهم حلقات الوصل بين الشرق والغرب، وكانت خلال العصور الوسطى حتى أواخر القرن الخامس عشر طريق الهند المختار، وكانت ثغورها دائماً سواء في البحر الأبيض المتوسط أو في البحر الأحمر قواعد رئيسية لتجارة الغرب مع الهند والشرق الأقصى؛ ونحن نعرف إن مصر والشام كانتا منذ القرن التاسع وحدة جغرافية وسياسية متحدة، وكانت حدود مصر منذ الدولة الطولونية تصل حتى أقاصي الشام؛ وكانت هذه المياه كلها على طول ساحل