وهذا هو (شيلنج) الذي ورث (فيخت) وتوأ مقعد الفلسفة بعده؛ درس اللهوت وألم بالعلوم الطبيعية ووقف على شيء من الطب، ولكن المزاج الفلسفي غلب فيه على كل مزاج آخر، فهجر هذه العلوم وآب الى الفلسفة، فجاءت خطراته الأولى يغلب عليها روح أستاذيه (فيخت) و (كانت)، ولم يكن لعقله ذلك النضوج وذلك التفكير المستقل اللذان يستطيع بهما أن يطهر فكرته من الصور التقليدية، ويجعلها ابنة تفكيره الذاتي. ترى آراء (فيخت) شائعة في هذه المقدمات حتى نقول: (إن فيخت) يمثل دروه كرة ثانية. لولا أن شيلنج يفز بفلسفته من (فيخت) الى مذهب القائلين (إن الآله الواحد إنما هو كل الكائنات. .) وقد يستبد شيلنج بهذه الآراء التي يرددها، ويحسب أنها آراؤه الذاتية، فلا يذكر (فيخت) ولا يرجع إليه برأي ولا حديث، ولكنه شديد الاحترام للفيلسوف (سبينوزا) الذي أمده بروجه، وقاد عقله في كثيرمن مراحله؛ وهو الذي أراد أن يستخلص مذهباً يجمع بين فكرة سبينوزا ونقد كانت وكمال فيخت، وبعد أن راٍ المدرسة الفلسفية كتب آراءه ونظراته في فلسفة الطبيعة حيث شاء أن يعيد العالم الخارجي الى نظامه بعد أن قتلته المدرسة (الكمالية) وشوهت حقيقة مظاهره؛ ثم أخرج كتابه (مذهب الكمال العالي) وفيه زبدة مذهبه الفلسفي والصورة الكاملة الحاوية لمذهبه
لم تكن فلسفة شيلنج كفلسفة (كانت) ابنة تأملات عميقة ونظرات متعاقبة، ولا كفلسفة (فيخت) نتيجة نظرات بعيدة في الأخلاق والكمال، وإنما كانت حصاد المخيلة ونتاج الخيال. فكان (كانت) يفكر ويستقصي ويتعمق ويكثر من التأمل، وفيخت كان يثبت من صدق الفكرة ثم يأمر، ولكن شيلنج راح يثبت ما توحي اليه مخيلته وينزل عليه خياله، وهكذا تطورت الفلسفة واخذت تلين بعد شدتها وترق بعد صرامتها، ويزول عنها هذا اللون العميق القاتم، وتدنوا برفق من الشعر والفن؛ والشعر والفن دائبان عاملان على تلطيفها