[بين شوقي وابن زيدون]
بقلم الدكتور زكي مبارك
تتمة
- ٤ -
واشترك شوقي وابن زيدون في التفجع والحنين، أما ابن زيدون فيقول:
يا جنة الخلد أُبدِلْنا بسَلْسلها ... والكوثر العذب زقوماً وغسْلينا
كأننا لم نبتْ والوَصلُ ثالثُنا ... والدهر قد غض من أجفان واشينا
سِرَّان في خاطر الظلماء يكتُمنا ... حتى يكادَ لسانُ الصبح يُفشينا
لا غَرْوَ أنَّا ذكرنا الحبَّ حينَ نهتْ ... عنهُ النُّهى وَتركنا الصبرَ ناسينا
إنا قرأنا الأسى يوم النوى سوراً ... مكتوبةً وأخذنا الصبرَ تلْقيِنا
أما هَواَكِ فلم نعدِلْ بِمَنهَلهِ ... شِرباً وإن كان يُروينا فيُظمينا
لم نجفُ أُفقَ جمالٍ أنتِ كوكبهُ ... سالينَ عنه ولم نهْجُرْهُ قالينا
ولا اختياراً تجنبناكِ عن كثب ... لكن عَدتنا على كرهٍ عوَادينا
والشاعر في هذه الأبيات يصف أيام الوصل أجمل وصف، ويرى نفسه انتقل من كوثر الخلد إلى الزَّقوم والغسلين، ويرى ورد الهوى القديم شرباً لا بعد له شرب، وإن كان يرويه فيظميه، ونعيم الوصل يرهف الحس فيزيد القلب ظمأ إلى ظمأ والتياعاً إلى التياع، وتحدث الشاعر عن البين فذكر أنه لم يقع عن سلوة ولا صدود، وإنما أكرهته العوادي.
ويروقنا هذا التعبير المؤنق:
(لم نجفُ أفقَ جمالٍ أَنتِ كَوكبُه)
فكأن الدنيا كانت لعهده أفقاً من المفاتن، وكانت محبوبته كوكب ذلك الأفق المطلول بأنداء الفتون.
هذا جزع من صنع الدهر صرخ به ابن زيدون، وعارضه شوقي فقال يصف قسوة الليل وقسوة الفراق:
ونابغىٍ كأنَّ الحشرَ آخِرُهُ ... تُميتُنا فيهِ ذِكراكم وتحيينا