نطوي دُجاهُ بجُرحٍ من فِرَاقِكُمو ... يكاد في غَلَسِ الأسحار يطوينا
إذا رسا النَّجم لم ترقأ محاجرنُا ... حتى يزولَ وَلم تهْدَأ ترَاقينا
بتنا نُقَاسي الدَّوَاهِي مِنْ كَوَاكِبِه ... حتى قَعَدْنا بها حَسرَى تُقاسينا
يبدُو النهارُ فيُخفِيه تجلدُنا ... للشَّامِتِينَ ويأسُوه تأسِّينا
وهذا من الشعر الرفيع، ومن العجز ألا نجد غير هذا الوصف، وإلا فكيف نصل إلى بيان الفتنة في هذا البيت:
يطوي دُجاهُ بجرح من فراقكمو ... يكادُ في غلس الأسحار يطوينا
أترون كيف يطوى الدجى بالجرح؟ أترون كيف تكون الجراح أعظم من ظلمات الليل؟
ثم ما هذه الوثبة الشعرية حين يقاسي الشاعر بطء الكواكب، ثم ينظر فيراها ابتليت به فباتت تقاسيه، وهي حسرى لواغب؟ والشاعر قد يعظم سلطانه على الوجود فيرى الدنيا تجزع لجزعه وتأسى لأساه.
وكان الشعراء الأقدمون يرون النهار يبدد الأشجان يفضل ما فيه من الشواغل، أما شوقي فيرى أشجانه لا تهدأ نهاراً إلا بفضل التأسي والتجلد للشامتين.
- ٥ -
بقي النظر فيما تفرد به الشاعران
ونحن نرى ابن زيدون تفرد بهذين البيتين في خطاب حبيبته التي أقصاه عنها الزمان
نأسى عليك إذا حثت مشعشعة ... فينا الشَّمُول وغنَّانا مُغنِّينا
لا أكؤس الرَّاح تبدي من شمائلنا ... سِيما ارتياحٍ ولا الأوتارُ تلهينا
وهذا من أدق المعاني النفسية، فالشراب والعناء يهيجان العواطف الغافية، ويبعثان الوجد الدفين؛ وللشوق في أمثال هذه اللحظات لذعات أعنف من الجمر المشبوب. وأين الجمر بجانب ما يثور في القلب عند الشراب والسماع؟ إن هذه لحظات تكشف المقنع من سرائر النفوس، وتصنع ما تصنع الحمى العاتية حين تنطق المحموم بأسماء لم يهذ بها لسانه ولا وجدانه منذ سنين.
وقول ابن زيدون:
ولو صبا نحونا من علو مطلعه ... بدر الدجى لم يكن حاشاك يصبينا